[شبهة القائلين بجواز ذلك والرد عليهم]
وشبهتهم في ذلك أن قالوا: إنما هو مجرد تمكين، ومجرد التمكين لا يقبح، كتمكين الله تعالى للعصاة من الأموال وغيرها، ثم لايسمى مجرد التمكين من غير قصد معاونة، وإلا لزم أن يسمى الله تعالى معيناً على الظلم والله تعالى منزه عن ذلك، فما كان من المكلف من التسليم إليهم من غير قصد لا تناوله تلك الأدلة، وذلك باطل؛ لأن تمكين الله تعالى للعصاة إنما كان ليصح التكليف، وتثبت الطاعة للمطيع والمعصية للعاصي، إذ لو لم يُمكِّنهم لم يكن المطيع مطيعا، ولا العاصي عاصيا، ولا اسْتُحِقّ ثواب ولا عقاب، ألا ترى أنه تعالى مكّنهم من المعاصي! ولم يكن ذلك قبيحاً منه تعالى لما كان لا يصح التكليف إلا به، ولم يجز للمكلف أن يمكن العاصي من المعصية لما كان مكلفاً بالذبِّ عن دين الله سبحانه وتعالىّ.
ياسبحان الله فَلِمَ لم يجعلوا ذلك كتمكين المكلف للعاصي من المعاصي! كأن يمكِّنه من الخمر فيشربه، أو من الزنى فيفعله، أو من نفس محرمة فيقتلها، وينظروا هل يحل ذلك! لأن القياس بهذا أولى؛ لأنه من قياس بعض أحكام التكليف على بعض.
هذا إن زعموا أن تسليم الأموال إليهم ليس من نفس التمكين من المعصية، وإلا فهو من صميمه لا ينكره إلا ألدّ مكابر؛ لأن إنفاق المال في المعاصي معصية إجماعاً، وهؤلاء قد مكّنوهم من ذلك.(1/302)


[تفنيد شبهة القائلين بجواز ذلك]
وأما قولهم: لا يسمى مجرد التمكين من غير قصد معاونة فباطل أيضاً؛ لأنه خلاف المعلوم من لغة العرب، ألا ترى أنهم لايشترطون في تسمية الأفعال أن تكون مقصودة! وإنما يقولون: تحرَّك النائم، وجرى المآء، وهبّت الريح وهي لا قصد لها! والكتاب والسنة إنما جريا على لغة العرب.(1/303)


(من القرآن)
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[إبراهيم:4]، مع أن الكتاب والسنة واللغة تشهد لنا بالحق في نفس المتنازع فيه.
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}[الفرقان:55] أي: معيناً.
ولا خلاف في ذلك بين المفسرين، والكافر لا قصد له في المعاونة على الله تعالى بدليل قوله تعالى، حاكياً عن الكفار: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر:3].(1/304)


(من السنة النبوية)
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أعان على هدم الإسلام)) ، ومن البعيد الملتحق بالمستحيل أن يكون من يدعو إلى الله تعالى له قصد في أن يعين بدعائه على هدم الإسلام.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه نهى عن أكل الطين، وقال: إنه ليعظم البطن ويعين على القتل))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) .
وعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ياحميراء، إياك وأكل الطين، فإنه يعظم البطن، ويعين على القتل)) رواه الأمير الحسينفي (الشفاء) . والطين لا قصد له ضرورة، وإنما تأثيره كجري الماء، وهبوب الريح، وإحراق النار.(1/305)


[من أقوال الأئمة عليهم السلام]
وعن زيد بن علي عليه السلام، عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: (وإن أنت رميت طيراً بسهم فوقع على الأرض فلا تأكل، فإني أخاف أن تكون الأرض أعانت على قتله)، رواه الإمام محمد بن المطهر عليه السلام في (المنهاج الجلي).
وقيل لعلي عليه السلام: بأي شيء غلبت الأقران؟ فقال عليه السلام: (ما لقيت أحداً إلا أعانني على نفسه)، رواه في (نهج البلاغة).
ومن البعيد الملتحق بالمستحيل أنهم يقصدون المعاونة على قتلهم.(1/306)

61 / 85
ع
En
A+
A-