وأما وجوب العمل بالشهادة، وهي لا تثمر إلا الظن، فهو حكم فرعي اقتضاه دليل علمي خاص وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ...}[البقرة:282] الآية ونحوها، والحكم غير دليله، وكلامنا إنما هو في أدلة الأحكام لا في نفس الأحكام؛ لأنَّا نوجب في كل حكم أن يكون دليله علمياً، وإن كان الحكم لا يفيد إلا الظن كالتحري في الفطر، وكثلاث زوجات ملتبسات بمطلقة، فتأمله.(1/27)


[الدليل العلمي]
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن يكون كلما اقتضاه الدليل العلمي غير مفيد للعلم كالإجماع مثلاً.
قلت وبالله التوفيق: إن الذي يقتضيه الدليل العلمي قسمان:
الأول: الحكم وهو نحو ما ذكرناه، فلا يشترط في الحكم أنه يفيد علماً إلا في الظاهر فقط.
والثاني: الدليل نحو الإجماع، فالدليل العلمي لو لم يكن شاهداً بصدقه ظاهراً وباطناً، لم يكن حجة على شيء من الأحكام؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36].
وأما إطباق التابعين وفقهاء الأمصار على قبول المظنون، فمردود؛ لأن قدماء الأئمة " كما يأتي إن شاء الله تعالى، والبغدادية والظاهرية، وبعض الإمامية لا يقبلون من الأخبار إلا ما يفيد العلم، وذلك ظاهر مشهور.
وأما قولهم: من طلب القطع فقد عطَّل فباطل؛ لأن في كتاب الله سبحانه، والسنة المتواترة والمتلقاة بالقبول بين جماعة الأمة، ثم بين جماعة العترة "، والأحادية الموافقة لكتاب الله سبحانه، حتى كان موافقة الكتاب العزيز لها شاهداً بصحتها، مع شهادة ما نقله علماء الأمة بالأخبار المتواترة، من قوله صلى الله عليه وآله: ((ألا وإنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما روي عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله)) بحراً لا يدرك قعره.(1/28)


[حكم القياس]
فإن قيل: إن النصوص فيما ذكرت غير وافية، فلا بد من القياس، وهو ظني.
قلت وبالله التوفيق: قد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، والردُّ إلى الله هو: إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو: إلى سنته، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ}[الشورى:10]، أي مردود إلى ما جاء عن الله في محكم كتابه تعالى وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، وذلك دليل علمي يقضي بصحة القياس من حيث أنه ردَّ إلى النصوص من الكتاب والسنة، لا ينكر ذلك إلا ألد مكابر، وما قضى بصحته المعلوم كان معلوم الصحة خارجاً من حيز الظن إلى حيز القطع وإلا انتقض؛ ولأن الآيتين نصٌ في صحة الاحتجاج به على الأحكام كما تبين، وذلك يقضي بكونه علمياً، وإلا لما صحّ الاحتجاج به لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36].
فإن قيل: فعلى هذا يلزم صحة الاحتجاج بالأخبار الأحادية والقياس في مسائل الأصول.
قلت وبالله التوفيق: أما الاستدلال بهما على ثبوت الباري تعالى، وتصحيح الرسالة والنبوة، وعلى ثبوتهما في أنفسهما فلا نسلّم لتأدية ذلك إلى الدور القاضي ببطلان الاستدلال بهما، وأما ما سوى ذلك فما المانع؟ وقد قضى الدليل القطعي بكونهما حقا! كما قضى بكون الإجماعين حقاً، وإلا لزم أن لا [يصح أن] يستدل بالإجماعين على شيء من المسائل الأصولية؛ لعدم الفرق وذلك معلوم البطلان.
فإن قيل: إنه قد وقع الخطأ في الاستدلال بهما، وذلك ينافي كون دلالتهما معلومة.(1/29)


قلت وبالله التوفيق: أما بعد الظفر بهما وبمعناهما على الحقيقة، فلا نُسلّم ذلك؛ لأن الأدلة القطعية تشهد بخلاف ما ذكرتم، وإنما وقع الخطأ لعدم الظفر بهما أو بمعناهما.(1/30)


[الاجتهاد المطلق]
فإن قيل: فما تقول في الاجتهاد المطلق؟
قلت وبالله التوفيق: إن كان مبنياً على الاحتياط، وموافقة الأصول من الكتاب والسنة، فالقول فيه كالقياس؛ لأن الاحتياط معلوم السلامة عقلاً، وأكدّ ذلك موافقة الكتاب والسنة؛ لأن ذلك ردٌّ إليهما، والمردود إليهما حق؛ لأن الله قد أمر به حيث قال: {فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، وهو تعالى لا يأمر إلا بما كان حقاً.
فإن قيل: إن القائلين: بأن دلالات الثلاثة ظنية، يقولون: إن دليل وجوب العمل بها علمي، فالخلاف راجع إلى اللفظ دون المعنى.
قلت وبالله التوفيق: كيف يكون الخلاف لفظياً، وهم ينفون الاستدلال بها على المسائل العلمية؟!(1/31)

6 / 85
ع
En
A+
A-