وأما سوى هذه الأصول والأحكام في الحوادث النازلة التي يسوغ فيها الاجتهاد، ولا نص فيها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع من الأمة والأئمة فالاجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول " دون غيرهم؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]؛ ولقوله تعالى أيضاً: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ...}[النساء:83] الآية، ونحو ذلك مما يروى عن الأئمة " [فالمراد أنه يجب على المجتهد من غير أهل البيت "] أن لايستقل بالاجتهاد من دون أن يكون موافقاً لهم فلابد من عرضه عليهم ورده إليهم لما لايؤمن من أن يقولوا بخلافه لما ذكره عليه السلام من الدليل، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قدموهم ولا تقدموهم)) الخبر، ونحوه كثير.(1/282)


[شروط الإمامة عند أهل البيت عليهم السلام]
وقال السائل: إذا ادعى رجل من أهل البيت " أنه يصلح للإمامة، وظاهره العدالة هل يقبل قوله، وتجب نصرته وإن لم يحصل بقوله إلا الظن؟
والجواب والله الموفق: أنه لابد مع ذلك أن يكون مشهوراً بالعلم، والاجتهاد، والورع، ورصانة العقل، وثبات الرأي والتدبير، ومنابذة أعداء الله الظالمين، وعدم المخالطة للظالمين حال دعوته وقبلها إلا أن يتفق منه ذلك، ثم يختبر بالتوبة من ذلك، والتوجع منه مع إظهار المعاداة لهم، والمنابذة مدة يعرف بها صدق توبته، وأن يكون مقداماً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، معروفاً بالسخاء والرأفة والرحمة لأهل الحاجة واليتم والمسكنة، متواضعاً لله لايتكبر على المؤمنين ولا يحتقر أحداً منهم، بل يعظمهم ويكرمهم، فإذا كان مشهوراً بذلك كامل الشروط لا يعرف أكمل منه وجبت طاعته ونصرته، وحرم خذلانه والقعود عنه، وعلى ذلك إجماع الصالحين من هذه الأمة، ووجوب طاعة الأئمة في الجملة معلوم من الدين ضرورة، وإن لم يكن مشهوراً كذلك فلابد من اختباره لما لايؤمن من أن يكون طالباً مجرد الدنيا والرئاسة، وذلك من الكبائر، لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16]، ونحو ذلك فيكون المجيب له على ذلك معيناً له على الإثم والعدوان،(1/283)


وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، فإن عرف بالاختبار وكان فيه ما ذكرنا وكان في ذلك أكمل من غيره في عصره أو مساوياً وجبت طاعته لما تقدم.(1/284)


[وجوب متابعة العوام للأئمة الهادين]
وقال السائل: إن أكثر المجاهدين مع الأئمة منذ أيام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الآن كانوا عوام ولم يروا أن أحداً من الأئمة أنكر عليهم الإقدام على القتل ونحوه من نصرة أئمتهم " حتى يباحثوه في علوم الاجتهاد، بل كانوا يأمرونهم بذلك ويحرضونهم عليه فيكون ذلك كالإجماع منهم على أن الإختبار إنما هو للمجتهدين من الأئمة دون سائر العامة!
والجواب والله الموفق: أن العوام قد كانوا يتابعون أئمة الجور أكثر من متابعتهم لأئمة الهدى كما ذلك ظاهر معلوم، وأئمة الهدى ينكرون على العوام في متابعة من لم يعرف بالكمال في شروط الإمامة، ومصنفاتهم ناطقة بذلك.
ومن الحجة علىذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسراء:36]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وقول علي عليه السلام: (الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق).
وأما عدم إنكار الأئمة " على من تابع من اشتهر فضله وكماله على الناس فلم يرد على محل النزاع؛ لأن الشهرة كافية للعالم والعامي كما تقدم بيانه.
فإن قيل: إن الشهرة لاتفيد إلا الظن لعدم الاطلاع على حقيقة الأمر، وما انطوت عليه القلوب من قصد الآخرة بالقيام بالإمامة أو الدين؟(1/285)


قلت وبالله التوفيق: إن تكليفنا إنما هو بالظاهر دون الباطن والأصل في ذلك قوله تعالى:{لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}[النور:12] الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نحن نحكم بالظاهر..)) الخبر[والله يتولى السرائر] ولأن العمل بذلك يؤدي إلى سد باب الإمامة وبطلانها فهو بالبطلان أجدر.
فإن قيل: قد أوجبت الإختبار في حق الملتبس حاله على العالم والعامي، والعامي لا يستطيع ذلك [ولا يُهتدى إليه] ولا يهتدي إليه إلا بعد زمان طويل؛ لأنه يشتغل بالتدريس حتى يبلغ رتبةً يعرف بها حال المتلبس حاله.
قلت وبالله التوفيق: لانسلم ذلك؛ لأنه يمكنه ذلك بما يظهر على الألسن ويصير ذلك مشهوراً، ويكفي العامي في ذلك قول أهل الصلاح والورع والخيفة لله سبحانه هو كامل الشروط، بل ذلك كاف لغيره من سائر العلماء كما يكتفون بما ينقلونه إليهم من الأخبار النبوية التي تنبني عليها الشرائع والأحكام من الإمامة وغيرها، كيف لاتكون أخبار العلماء للعوام بأنه كامل الشروط معنياً عن اختبارهم! وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}[النحل:43،44].(1/286)

57 / 85
ع
En
A+
A-