وأما ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، إن صح فلايدل على تصويب المجتهدين مع الاختلاف من حيث أن اللفظ لا يدل على ذلك لا بالمنطوق ولا بالمفهوم لاسيما مع ما كثر من أخبار النفاق، والإجلاء عن الحوض حتى لا يبقى من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم كما زعموا إلا مثل همل النعم كما تقدم بيانه، ومعنى الاتفاق على صحة قوله صلى الله عليه وآله: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا)) الخبر ونحوه. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) الخبر ونحوه مما يدل على أنه يجب على جميع الصحابة اتباعه، وذلك يسلتزم عدم الاقتداء بهم مما يخالف أهل البيت " عامة وعلياً عليه السلام خاصة، على أن هذا الخبر ضعيف أحادي لا يعتد به في مسائل الأصول، فكيف يصح أن يعتمد عليه ويعارض به القواطع؟
وأما إيراد خبر أبي بكر فسامج؛ لأنه إنما قال ذلك بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس: ((من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)) فلم يكن قول أبي بكر صادراً عن اجتهاد، وإنما قاله عن دليل قطعي وهو ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لا يسمى اجتهاداً بالإجماع، وإن سلم فغايته أن أبا بكر أصاب في ذلك الحكم وحده فلا يلزم إصابته وإصابة سائر المجتهدين في سائر الأحكام، وإلا لزم أن يقال: إن ابن عمر أخطأ في طلاق امرأته في حال الحيض، فلزم أن يكون كل مجتهد مخطئاً إذ لافرق، وذلك فتح لباب الجهالات.(1/277)
وأما قول السائل: ونحو ذلك كثير، فإن أراد نحو قول أبي بكر من أقوال المصيبين للحق!
فالجواب عليه نحو ما مر من غير زيادة ولا نقصان، وإن أراد غير ذلك من الشبه التي بها يحصل الشك ولم يتضمنها هذا الجواب فهاتها، فلعله يجد -إن شاء الله تعالى- عندي حلها والله الموفق والهادي.
وقال السائل: إن قوله تعالى: {ولا تفرقوا فِيهِ}[الشورى:13]، ونحوه يحتمل أن يكون في أصول الدين ونحوه مما اتفق أكثر العلماء على عدم جواز التقليد فيه.
والجواب والله الموفق: أنه قد تبين لك انتفاء المخصص فيما سبق ومع انتفائه ينتفي الاحتمال لما ذكرت، وإلا لزم أن لايوثق بمضمون ما يدل على أكثر من معنى واحد من أدلة الكتاب والسنة، وذلك باطل لكونه خلاف ما علم من الدين ضرورة.
وقال السائل: لاإشكال أنه يجب العمل بما أجمع عليه أهل البيت "، لكن معرفة ذلك تكاد تلحق بالمستحيل؛ لكثرتهم وانتشارهم في الأقطار، فما ذا يقال فيما يحكيه العدل من إجماعهم؟
والجواب والله الموفق: إن كان الخلاف مما توفر الدواعي على نقله لو كان قبلت حكايته لذلك؛ وإلا فالواجب عرضها على كتاب الله سبحانه، فإن وافقها فهو صحيح؛ لأنهما لن يفترقا كما في الخبر.(1/278)
[وجوب العرض على كتاب الله وسنة رسوله عند كثرة اختلاف المجتهدين]
وقال السائل: فما طريق من أمر باتباعهم من المجتهدين مع الاختلاف مع كون المسائل المختلف فيها أكثر من المجمع عليها؟ ومن يتبعون؟ ومن يرفضون؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب مع ذلك العرض على كتاب الله وسنة رسوله، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ...}[النساء:59] الآية ونحوها فإن لم يحسن ذلك المقلد عمل بالأحوط؛ لأنه يرجع إلى إجماعهم فيترك بيع الرجاء؛ لأنهم مجمعون على أنه لا إثم على فاعله ونحو ذلك، ويترك رفع اليدين في الصلاة ووضع اليد على اليد، والتأمين والقنوت بغير القرآن؛ لأنهم مجمعون على صحة صلاة من ترك ذلك، ومختلفون في صحة صلاة من فعل واحد منها؛ ولقوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...}[الإسراء:36] الآية، وهي تناول كلما اختلف فيه، وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...}[الزمر:17،18] الآية، وهي تناول ما ذكرناه من العمل بالأحوط؛ لأنه أحسن لكونه معلوم السلامة، وهذا مذهب القدماء من أهل البيت " وجماعة من متأخريهم.
ولقد نقلت من كلاماتهم بألفاظها في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) ما يشفي وحاوح صدر المؤمن، فليلتمس من هناك،و لله القائل شعراً:
لا عيب في الحيطة والنظافة .... والأخذ بالحزم من المخافة
غيره:
وليس بتقوى الله طول عبادة .... ولكنما التقوى مجانبة الشبه
وقال السائل: هل يكون المخطئ هالكاً آثماً؟(1/279)
والجواب والله الموفق: أنه لا إثم على المخطئ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}[الأحزاب:5]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)).
وقال السائل: هل يكون حكم المقلد في ذلك حكم من قلده؟
والجواب والله الموفق: أنه لايصح التقليد مع الاختلاف لما تقدم من وجوب رد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذهب أكثر الناس إلى جواز التقليد مع الاختلاف.
واحتجوا: بوقوع التقليد في زمن الصحابة مع الاختلاف من غير نكير!
قالوا: وذلك إجماع منهم وليس شيء؛ لأن نكير أمير المؤمنين عليه السلام لمن اتبع غيره غير خاف كما ذهب إليه قدماء العترة، وجل متأخريهم ومما رووا عنه كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: (وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كل فرقة على ثلاث وسبعين ملة، كل ملة ضالة مضلة؛ إلا من أخذ بحجزتي وحجزة أهل بيت رسوله وكتابه وسنته، واتباع الحبل الأكبر، والحبل الأصغر) ونحو ذلك وإن سلم عدم النكير فلعدم الارعوى بعد وقوع النزاع وظهوره بينهم كما تقدم تحقيقه.(1/280)
[صحة الاجتهاد ومتى يكون؟ وممن؟]
وقال السائل: هل يصح الاجتهاد ويمكن في غير أهل البيت "؟
والجواب والله الموفق: أن ذلك ممكن وإنكاره سفسطة!
لكن أيقال: هل يسوغ؟
والجواب والله الموفق: أن من اجتهد من غيرهم فكان عاملاً في ذلك بالإحتياط والاستقصاء في موافقة الأصول من الكتاب، والسنة، والعترة، جاز ذلك؛ لخبر معاذ وقد تقدم، ولما رواه الأئمة عن زيد بن علي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قال: (أول القضاء بما في كتاب الله عزّ وجلّ، ثم بما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ما أجمع عليه الصالحون، فإن لم يوجد ذلك [في كتاب الله عز وجل ولا في السنة ولا فيما أجمع عليه الصالحون] اجتهد الإمام في ذلك لايألو احتياطاً، واعتبر وقاس الأمور بعضها ببعض، فإذا تبين له الحق أمضاه، ولقاضي المسلمين من ذلك ما لإمامهم).
وما روي عن الناصر عليه السلام أنه قال: (ولله تعالى أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها التي الأمة فيها سواء).(1/281)