وقال السائل: قد ثبت معاوضة دليل القائلين بأن الحق واحد نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13] بقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء:79]، وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}[الحشر:5]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن قاضياً، قال: ((بم تحكم)) قال: بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد))، قال: بسنة رسول الله،، قال: ((فإن لم تجد))، قال: اجتهد رأيي لا آلو احتياطاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم اهتديتم))، وقول أبي بكر في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآخذ السلب: ((لاها الله إذن))، كذا في الرواية، لا تعمد إلى أسد من أُسْدِ الله يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدق )) الخبر.
ثم قال السائل: ونحو ذلك كثير!
والجواب والله الموفق: أما قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ...} الآية، فهو حجة لنا؛ لأنه لو كان كل واحد منهما أعني داود، وسليمان عليهما السلام في ذلك مصيب لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بالتفهيم من الله تعالى فائدة، والله تعالى متعال عن أن يفعل شيئاً لالفائدة واعتقاد كفر، وذلك لكونه من صفات المناقص.(1/272)
وأما قوله تعالى:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، فللإحتراس عن سوء توهم من يتوهم أن داود عليه السلام لم يكن ذا حكم وعلم على الإطلاق فإنه لو اقتصر على ذكر تفهيم سليمان عليه السلام ربما توهم أن داود عليه السلام لم يحصل له تفهيم في شيء من الأحكام، كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ}[المائدة:54]، فإنه لواقتصر على وصفهم بالذلة للمؤمنين ربما توهم أن ذلك لضعفهم، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ}[الفتح:29]، فإنه لو اقتصر على وصفهم بالشدة ربما توهم أن الرحمة منهم منتفية، وكقول كعب بن سعد [ الغنوي شعراً]:
حليم إذا ما الحلم زين أهله .... مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ربما توهم أن ذلك من عجزه، فأزال ذلك ببيان أن حلمه إنما هو في وقت يزين الحلم لأهله، وذلك إنما يكون مع القدرة ونحو ذلك كثير.
فإن قيل: إن الذي ذكرت قاض بتخطئة الأنبياء " في بعض أحكامهم، وقد قال المؤيد بالله عليه السلام في جواب مطاعن الشريف علوي عليه بعد أن ذكر اقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدهنا ورجوعه ما لفظه: (وأما ظن من يظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخطأ في الحكم الأول فهو عظيم من الإثم قريب من مفارقة الدين، قال تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3]).(1/273)
قلت وبالله التوفيق: ذلك نبأ منه عليه السلام على عدم جواز تعبد الأنبياء صلوات الله عليهم بالاجتهاد عقلاً كما هو مذهبه ومذهب أبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبد الله البصري، وهو باطل؛ لأنه لا مانع عقلاً وقع ووقع فيه الخطأ لكن لم يقر عليه وذلك في إذنه صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين بدليل قوله تعالى: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ...}[التوبة:43] الآية، وفي عبوسه صلى الله عليه وآله وسلم وتوليه عن الأعمى وتصديه لمن استغنى ليتألفه بذلك، فعاتبه الله تعالى بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى...} إلى قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:1-6]، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم في رأي أصحابه في أخذ الفداء من أسارى بدر أوغيره حتى كانوا سبباً لنزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:67-68] ومن بحث في قصص الأنبياء " وأخبارهم وجد خطاياهم أو أكثرها من هذا القبيل، فقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى...}[النجم:3] الآية، لايدفع ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك اتباعاً للهوى؛ ولأنه خاص بتبليغ الوحي بدليل قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4]، وليس في تبليغ الوحي اجتهاد.(1/274)
[دليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على الخطأ]
فإن قيل: قد ذكرت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لايقر على الخطأ فما الدليل على ذلك؟
قلت وبالله التوفيق: إن كل من أمرنا الله باتباعه كالرسل صلوات الله عليهم والوصي والعترة لا يجوز أن يقروا على الخطأ لاستلزامه الأمر بالباطل، وما لا يرتضيه الله في علمه مع قدرته على إزالة ذلك، وذلك من صفات المناقص التي لاتجوز على الله سبحانه، لاسيما وقد قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]، بعد أمره باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ذلك معلوم من الدين ضرورة.
وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7]، وقد أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نتبع الوصي والعترة" كما رواه الصديق والعدو من فرق الأمة مما يطول ويكثر.
فإن قيل: فبأي شيء يتداركهم الله سبحانه؟
قلت وبالله التوفيق: أما الأنبياء صلوات الله عليهم فبالوحي، أو التوفيق والألطاف، وأما غيرهم فبالألطاف والتوفيق فقط لانقطاع الوحي.
وأما قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}[الحشر:5]، فلا تدل على تصويب المجتهدين مع الاختلاف البته؛ لأن معناها الإباحة فقط حيث ساوى الله تعالى بين القطع والترك.(1/275)
[سبب نزول الآية {ما قطعتم من لينة أو تركتموها...}]
فإن قيل: إن سبب نزولها أن الصحابة اختلفوا في القطع، فبعضهم سوغه وبعضهم لم يسوغه، فأنزل الله تعالى الآية لتصويب الفريقين!
قلت وبالله التوفيق: لو سلم صحة ذلك لم تفد الآية غير ما ذكرنا من معنى الإباحة، فهي بيان لحكم ما اختلفوا فيه لا لتصويب المجتهدين، ألا ترى أنه مع ذلك يسوغ لكل واحد من الفريقين العمل بأي الأمرين على التخيير ولا يسوغ مثل ذلك في المسائل المختلف فيها بالإجماع المعلوم! وإلا فقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالقطع، فقال بعض أصحابه: كيف نفعل ذلك وقد نهى الله عن الفساد في الأرض؟ فنزلت، وذلك يبطل ما ذكر من خلافه بالمعارضة إن لم يكن راجحاً.
وأما خبر معاذ فلايدل على تصويب المجتهدين مع الاختلاف أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما حمد الله على توفيق الله لمعاذ إلى طرق الأحكام، وسياق الخبر شاهد بذلك؛ ولأن دعوى كون معاذ لا يخطئ في اجتهاداته باطلة؛ لأنه لايصح أن يكون أرفع حالاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صح جواز الخطأ عليه في اجتهاداته كما تقدم بيانه، فكيف يكون مصيباً على الإطلاق؟ وإن سلم فلا يصح قياس سائر المجتهدين عليه؛ لأنهم لم يكونوا رسلاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والنبي إنما قال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)).(1/276)