فقال علي عليه السلام: (إن اجتهد فقد أخطئ) الخبر، ولم ينازعه أحد منهم في التخطئة، ولو كان القول بالتصويب مذهباً لبعضهم لنازعه فيها كما كانوا ينازعونه في كثير من المسائل لماّ كان مذهبهم فيها خلاف مذهبه.
وله عليه السلام في (نهج البلاغة) كلام بسيط في ذم الاختلاف، فليطلع عليه السائل هنالك.
وروي عنه عليه السلام، وزيد بن ثابت وغيرهم: تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول.
وروي عن ابن عباس: أنه خطّأ أهل القول بالعول.
وروي عن ابن عباس أنه قال: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً أي في منزلة الإبن في الميراث ولا يجعل أب الأب أباً) أي في منزلة الأب في الميراث.
وروي أن أبا بكر سُئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة؟
فقال: (ما سمعت فيها شيئاً، وسأقول فيها برأي فإن أصبت فالله وفقني، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان..) الخبر، ولم ينقل أنه نوزع في التخطئة، ولو كان القول بالتصويب مذهباً لبعضهم لنازعه ونقل.
وروي أن عمر قيل له في بعض اجتهاداته: أصبت، فعلى القائل بالدرة، وقال: (لا تزكونا في أوجاهنا فإني لا أدري أصبت أم أخطأت).
وروي أن كاتباً كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عمر.
فقال عمر: (امحه واكتب هذا ما رأى عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن غير صواب فمن عمر).
وروي أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها صداقاً، فقال: (أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان..) الخبر.(1/267)
والرأي هنا المراد به الاجتهاد لا يختلف في ذلك، فانظر كيف صرحوا بعدم القطع بالتصويب، وتنفيذ ما اجتهدوا من ذلك، وعدم الرجوع عنه، وتأويل ما روي من ذلك بأنه للتشديد في الاجتهاد فقط تلعب بأقاويل أكابر الصحابة بلا دليل إلا أنه خلاف مذهب المتأول.
وأيضاً: قد وقع الخلاف بين الصحابة في الإمامة والسكوت من الجميع بعد النزاع كما وقع النزاع في المختلف فيه من الفروع والسكوت بعد ذلك، والإمامة من الأصول فلو كان ذلك يدل على التصويب لجرى في الأصول كما جرى في الفروع لعدم الفرق، وأيضاً أن السكوت لم يقع من الصحابة إلا بعد الإياس من الرجوع كل إلى صاحبه، وأهل القول بالتصويب ممن يقول أنه لا يجب النكير عند الإياس من الرجوع إلى الحق فكيف يعتد بذلك في تخصيص الأدلة القطعية؟
وقالوا: لم ينقض أحد منهم حكم صاحبه!
والجواب والله الموفق: أنا نجيب في ذلك بمثل ما يعتمدون عليه، حيث قالوا: إنما لم يصح للحاكم أن ينقض ما يخالف مذهبه صيانة للأحكام، وإلا لم يستقر حكم البته، فعدم نقض المصيبين لأحكام من خالفهم من المخطئين إنما كان لصيانة ما وقع صواباً من الأحكام من النقض؛ لأنه لو نقضوا حكم المخطئ لنقض حكمهم؛ لأنه يدعي أن الحق معه.
وقالوا: كانوا يعتذرون في المخالفة ويقولون: هذا رأيي وهذا رأيك!
والجواب والله الموفق: أما الاعتذار بما ذكروه فبمراحل من الدلالة على التصويب؛ لأن الله سبحانه قد قال في كتابه: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ...} إلى قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:1-6]، فلم يكن ذلك تقرير للكفار على دينهم ولا تصويباً.(1/268)
وقالوا: قد روي عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)).
وعن عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((اقض بينهما -يعني خصمين- فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة)).
والجواب والله الموفق: أن هذين الخبرين حجة لنا؛ لأن فيهما تصريح بالتخطئة، وأما الأجر والحسنة مع الخطأ فثواب من الله سبحانه على نية العمل بالحق لا على الحكم بالخطأ إذ هو ذنب معفو عنه بدليل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}[الأحزاب:5].
قالوا: وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اختلاف أمتي رحمة)).
والجواب والله الموفق: أنه لادلالة في ذلك على الصواب لو صح؛ لأنه من جملة البلوى وكل بلوى رحمة للمؤمنين، بدليل قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا...}[آل عمران:141] الآية، ونحوها مع قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا صافى الله عبداً صبَّ عليه البلاء صبًّا)) الخبر، أو كما قال مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنَّ الله بالمؤمنين أرحم من أم الفراخ بفراخها)) الخبر أو كما قال، وجميع ذلك من خطاب التكميل.
وقالوا: لا يمتنع أن يريد الله من كل مجتهد ما فهمه؛ لأن الشرائع مصالح وهي تختلف باختلاف الناس، ولا حكم فيها معيّن وإنما مراد الله تابع لمراد المجتهد!(1/269)
والجواب والله الموفق: أن هذا كله مجرد كلام بلا دليل فكيف يصح الاعتماد عليه في تخصيص محكم التنزيل! وقالوا: لا يخلو إما أن يريد الله سبحانه من كل ما أداه إليه نظرة، أو يريده من بعض دون بعض:
أولا: يريد ذلك من كلهم الثالث باطل؛ لأنه خلاف الإجماع.
والثاني: باطل أيضاً؛ لأنه محاباة ومن وصف الله بها كفر، فثبت الأول؟
والجواب والله الموفق ما قدمناه من أن الأدلة تقضي أن الحق واحد وأن الله يريد من كل اصابته، فمن أصابه فقد طابق مراده، ومن أخطأه لم يطابق مراده تعالى، وهذا خارج من ذلك التقسيم؛ لأنه مع ذلك لم يرد من كل ما فهمه وإنما طابق مراده المصيب ولم يكن محاباة؛ لأنه قد أراد من الجميع إصابته ولم يرد من كلهم عدم إصابته، وإنما أراد العكس لما تقدم من الأدلة نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103].
وقال السائل: لادليل قاطع أن فلاناً مصيب ولا فلاناً مخطئ!
والجواب والله الموفق: أما مع عرض الأقوال على كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا شك أن الموافق لهما مصيب، والمخالف لهما مخطئ، والله قد أمر بالعرض عليهما حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، وحيث قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ}[الشورى:10]، أي مردود إلى ما جاء عنه تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ}[هود:123].(1/270)
[إجماع أهل البيت على أن الحق واحد]
وقال السائل: إن علماء أهل البيت " كافة وجمهورهم اتفقوا على أنه يجب الحق عند كل واحد، ولا يجوز التخطئة للمخالف منهم!
قال السائل: وإلا أدى إلى أحد محذورين:
أحدهما: أنا إذا جوزنا التخطئة في أحد منهم جوزناها في الآخر، فلا يكون إجماعهم حجة، وذلك باطل وإن جوزنا في بعض دون بعض كان تحكماً لعدم الدليل!
والجواب والله الموفق: أن إجماع القدماء من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن الحق واحد، وأن المخالف مخطئ غير آثم إلا أن يتعمد.
ذكرت هذا عن تحقيق بعد فحص وتدقيق، ولم يقل بأن كل مجتهد مصيب إلا جماعة من المتأخرين معدودين محصورين كما هو مقرر في بسايط كتب أصحابنا.
وأما تجويز التخطئة مع إجماعهم فمنتفية عن البعض والكل؛ لما تقدم من الأدلة، فلا يكون ما ذكره السائل قدحاً في إجماعهم وذلك واضح.
وأما مع اختلافهم فنحن نقطع بخطأ بعضهم دون بعض لما تقدم من الأدلة على أن الحق واحد، فإن عرضنا الأقوال على كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم الوجه في وجوب ذلك تعين الخطأ في قول من خالفهما وإلا كان المخطئ والمصيب غير معينين فلا تحكم، ولا يجوز مع الاختلاف خروج الحق من أيديهم كلهم؛ لما تقدم من الأدلة ووجوب التمسك بهم الدالة على ذلك بالمطابقة والتضمن والالتزام، ونحو ذلك مما لم نذكره مما يدل على ذلك كذلك.(1/271)