ورواه المخالفون، وهو نص صريح في كون إجماعهم " حجة، وبالجملة أن الأحاديث التي تدل على حجية إجماعهم أكثر من أن تحصى، وقد أطبق على روايتها المخالف والموالف، منها ما يدل على ذلك تصريح لفظه، ومنها ما يدل عليه بالتضمن، ومنها ما يدل عليه بالالتزام، وهذا هو عين التواتر المعنوي الذي يفيد العلم القطعي الذي لايمكن دفعه بشك ولا شبهة، وقد قلت في معنى ذلك من جملة أبيات في التحذير من مذهب الصوفية الباطنية شعراً، وهو:
ياذا المريد لنفسه تثبيتاً .... ولدينه عند الإله ثبوتا
أسلك طريقة آل أحمد واسألن .... سفن النجا إن تسألوا ياقوتا
لاتعدلن بآل أحمد غيرهم .... وهل الحصاة تشا كل الياقوتا
الله أوجب ودهم في وحيه .... والرجس أذهب عنهم إن شئتا
وأئمة الأخيار تروي فضلهم .... فابحث تجده مجملاً وشتيتا
ما إن تلم بمسندٍ أو مُرسَلٍٍ .... إلا وجدت لهم هناك نعوتا
فيها نعوت نجاتهم فدع الذي .... لم تلق يوما بالنجا منعوتا
وقال بعض أهل التعسف: جميع ما يستدل به على إجماعهم غايته الظهور وذلك لايفيد إلا الظن، وما ادعى من إجماعهم أصل من الأصول لايثبت بالظنون!(1/262)


والجواب والله الموفق: أن ذلك قد ثبت في الكتاب العزيز وفي السنة مع اختلاف المذاهب، وتشتيت الرواة وتباعد الجهات كما تقدم التصريح به والإشارة إليه، فإن أراد بالظهور أنه وقع في المتن أعني أنه رواه أكثر من واحد ولم يبلغ حد التواتر، فذلك سفسطة صريحة؛ لأن القرآن متواتر المتن وكذلك الأخبار التي ذكرنا بعضها وأشرنا إلى أكثرها، منها ماهو متواتر لفظاً، ومنها ما هو متواتر معنى لوقوع الإجماع على نقل ذلك كما بيناه، وإن أراد بالظهور أنه واقع في المعنى أعني أنه يدعي أنه يحتمل غير ما ذكرناه من كون إجماعهم " حجة، فتصير دلالته على ذلك حينئذ ظنية، فذلك انحراف عن الحق وتعام عنه بينّ؛ لأن كل لفظ إذا انتفى ما يدل على أن المراد به غير ظاهره يصير نصاً جلياً، وإلا لزم أن قول الله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[البقرة:255]، لا يكون نصاً جلياً في التوحيد، وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282]، لا يكون نصاً جلياً في شمول علمه تعالى للأشياء، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}[آل عمران:144]، لا يكون نصاً جلياً في كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، وأن يكون المراد بها خلاف ظواهرها لكونها صالحة لذلك، كما أن المعنىفي قوله: ((لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي)) نفي الكمال، وفي قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}[الأحقاف:25]، البعض لا الشمول لكل شيء، بدليل خروج السماوات والأرض، وفي قولهم: ما زيد إلا أسد أي كأسد، واعتقاد ذلك كفر بالله ورسوله ؛(1/263)


لأنه خلاف ما علم من الدين ضرورة، وما ذكرناه من الأدلة على إجماعهم " لايوجد دليل بخروجها عن كون المراد بها خلاف ظواهرها ومن بحث علم ذلك علماً يقيناً؛ لأن المخالفين يتعسفون في تأويلها بغير دليل، إذ لو كان ثم دليل لأتى به هذا المعاند للحق، ولم يكتف بمجرد التعسف.
وأيضاً: لو كان المراد بها خلاف ظواهرها لورد الدليل على ذلك على حد ورودها، وإلا كان ألغازاً وتعمية، وذلك لايجوز على الله تعالى، وإنما ذلك كما قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4].(1/264)


[ثبوت إجماع أهل البيت على الحق]
هذا ولنرجع إلى جواب السائل، فنقول وبالله التوفيق: قد ثبت أن الحق فيما أجمعوا عليه لما تقدم من الأدلة.
وأما ما اختلفوا فيه فليس كله باطل؛ لأن الحق لا يخرج من أيديهم كما تقدم، ولا كله حق لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105]، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام:159] وقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا لايقتتل مسلمان ولايختلف عالمان)) ونحوه، وقد علمنا انتفاء المخصص بما ذكرته مفصلاً في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) بما نورده إن شا الله تعالى الآن من شبه المخالفين التي تعلقوا بها وحلها؛ لأنهم المطلعون على [معين] كتاب الله سبحانه، وعلى كتب الحديث النبوي، والمتبحرون فيها وأهل التفتيش والحك والتنقيش، فلو وجدوا مخصصاً لما أوردناه على ما ذكروا لما عولوا إلا عليه، ولم يقتصروا على ما هو دونه.
قالوا: والمخصص لتلك الأدلة والموجب لقصرها على المسائل الأصولية وقوع الاختلاف بين الصحابة.(1/265)


[وقوع الاختلاف بين المجتهدين وليس كل مجتهد مصيب مع الأدلة]
وقالوا: وذلك إجماع منهم لعدم النكير فثبت أن كل مجتهد في الفرعيات مصيب.
والجواب والله الموفق: أن وقوع الاختلاف بين الصحابة لايدل على ذلك؛ لأن الأفعال لادلالة لها على المعاني المترجم عنها بالقول كخرق الخضر عليه السلام للسفينة، فإن موسى عليه السلام لم يفهم بمجرده ما الغرض منه بل قد يكون ما يعتاد لأمر قرينه على تحصيله لذلك الأمر كالأكل والشرب، فإن كل واحد منهما قرينة على تحصيله لأجل الحاجة المخصوصة المعروفة عند العقلاء، فوقوع الخلاف قرينة على تخطئة كلٌ لصاحبه؛ لأن العاقل في مجرى العادة لايخالف صاحبه فيما اتفق على طلبه إلا إذا عرف خطأه عن المطلوب وإلا لوافقه عليه لارتفاع المانع.
وأما دعوى عدم النكيرمن بعضهم على بعض فباطلة؛ لأنه نقل بالأخبار المتواترة وقوع النزاع بينهم في ذلك، ومن عادات العقلاء أن لايقع نزاع بينهم إلا فيما ينكر بعضهم على بعض.
وأيضاً: قد وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في كثير من المسائل، وصرّح أيضاً بالتخطئة في مشهد من الصحابة في قصة المرأة التي استحضرها عمر، فأسقطت خوفاً منه، فاستشارهم عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان: (إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً).
فقال علي عليه السلام: (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا الخبر).
وفي رواية أن القائل لذلك عبد الرحمن بن عوف وحده.(1/266)

53 / 85
ع
En
A+
A-