الجواب المختار على مسائل القاضي عبد الجبار
بسم الله الرحمن الرحيم
(رب يسر وأعن يا كريم)
[ونسأله الهداية إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين](1/22)
[الاختلاف في اشتراط الأدلة القطعية]
قال السائل أرشدنا الله وإياه إلى ما يرضيه في مقدمة مسائله: ما يقول علماء الإسلام؟ إلى قوله: في جواب مسائل، إلى قوله: مشتملاً على تبيين الحق في كل مسألة بأدلة قطعية، وإزالة ما يرد على تلك الأدلة من الأسئلة -يريد من الشبه- وذكر أقوال المخالفين وحجة كل قائل، وعلى الجملة فالغرض العلم بجواب كل مسألة مع بسط الكلام، وذكر الأقوال حتى يتميز القول الصحيح من الفاسد لا على وجه التقليد؟
والجواب والله الموفق والمعين: أما طلبه للأدلة القطعية في كل مسألة، ففيها ما هي فرعية كما يأتي إن شاء الله تعالى، والأمة في ذلك على قولين: منهم من يشترط القطع في الفروع كالأصول، ومنهم من يطلب القطع في الفروع إن حصل وإلا اكتفى بالظن، وزعموا أن من طلب القطع فقد عطّل.
واحتجوا على ذلك وقوع التعبد بالمظنون وحسنه بوجوب دفع الضرر المظنون عقلاً، وبخبر عبد الرحمن في المجوس، وكتاب عمرو بن حزم، وبعثة السعاة من الرسول صلى الله عليه وآله، والعمال، وخبر حمل بن مالك في الجنين.
قالوا: والكل آحاد لا يفيد إلا الظن.
قالوا: وقد أطبق التابعون، وفقهاء الأمصار على قبول أخبار الآحاد.
واحتجوا أيضاً بوجوب العمل بالشهادة، وهي لا تثمر إلا الظن.(1/23)
ومن الدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:168،169]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...}، إلى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28] ونحو ذلك من الآيات الدالة على ذم الظن، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من أعان على خصومةٍ بغير علم، كان في سخط الله حتى ينزع)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وأما وجوب دفع الضرر المظنون عقلاً، إن كان دفعه بما يعلم أنه يدفعه فلا حجة لهم فيه، وإن كان بما يظن، فإنَّا نعلم وقوع الخطأ في كثير من الظنون ورب خطأٍ مؤدٍ إلى العطب، فإن حذَّر منه بصير وجب تجنُّبه عقلاً، وهذا قد حذّر منه السميع البصير كما تقدم، وكما قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...الآية}[الإسراء:36].
وأما احتجاجهم بما سوى ذلك مما ذكروه، فلنا عليه جوابان: جملي، وتفصيلي.
أما الجملي: فإنه لا يخلو إما أن يكون ثبوت ذلك لدليل أو لغير دليل ليس الثاني؛ لأن الأصول لا يصح ثبوتها لغير دليل عقلاً وشرعاً وإجماعاً.(1/24)
والأول لا يخلو إما أن يكون الدليل: ظني أو علمي، إن كان الدليل ظني فهو محل النزاع، فكيف يصح الاحتجاج به علينا؛ ونحن ننفيه؟! ودليلنا قائم على بطلانه! وإن كان الدليل علمي فما قضى بصحته الدليل المعلوم كان معلوماً، وخرج بذلك من دائرة الظن إلى دائرة العلم، وإلا انتقض الاستدلال بالمعلوم، ألا ترى أن دليل العمل بالشهادة معلوم! وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ...}[البقرة:282] الآية ونحوها، وذلك يقضي بصحتها قطعاً، ويخرجها من دائرة الظن إلى دائرة العلم في الظاهر، وكذلك أدلة الأحكام لا تصح عندنا إلا إذا قضى بصحتها الدليل المعلوم، وأخرجها من حيز الظن إلى حيز العلم؛ لئلا نقول على الله ما لا نعلم.
وأما التفصيلي: فخبر عبدالرحمن لم يكن متحداً بروايته؛ لأنا قد روينا بالإسناد الموثوق به إلى علي عليه السلام أنه قال: (لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وأما مشركوا العجم فتؤخذ منهم الجزية)، والمجوس من مشركي العجم.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله: ((أنه قَبِلَ الجزية، من مجوس هجر))؛ ولأن خبر عبدالرحمن ليس فيه أن الصحابة لم يعرفوا ذلك كلهم إلا من جهته.(1/25)
وأما كتاب عمرو بن حزم، فإنهم لم يعملوا به؛ حتى عرفوا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كتبه له، وقد يحصل العلم بمثل ذلك إذا عرف الخط ولم يخرج عن أيدي أهل الصدق، وكَكُتب الأئمة، والملوك إلى الأمراء والعمال وغيرهم، فإنهم يقطعون عند وصولها إليهم أنها من أهل أمرهم بانضمام قرينة العلامة والختم وخوف متحمليها من أهل الأمر أن ينكِّلوا بهم لو زوّروها، والناس في كل عصر يقطعون بصحة ما شأنه كذلك، وكذلك القول في السعاة والعمال، والحجة واحدة.
وأما خبر حمل بن مالك في دية الجنين: فإن المشهور أن علياً عليه السلام كان مرجوعاً إليه؛ لأنه باب مدينة العلم كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله، فأنى لهم أن علياً عليه السلام رجع في ذلك إلى حمل بن مالك، وأيضاً فإن الخبر ليس فيه أن جميع الصحابة لم يعرفوا ذلك إلا منه، وكذلك القول في ما عسى أن يرد من نحو ذلك، والحجة واحدة.
وأما رواية أن علياً عليه السلام كان يُحلّف من يروي له عن النبي صلى الله عليه وآله فيقبله، فلعلّه من روايات من يغمص في حقه، ويقدّم غيره عليه مع أنها أحادية مصادمة لما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى من تفصيله عليه السلام لأحوال الرواة.(1/26)