قلت وبالله التوفيق: إنهم إن كانوا يتمكنون من الخروج من تلك الديار التي فعل بهم ذلك فيها فليس ذلك بعذر؛ لأن السكون في الديار مباح وإلا لحرم التنقل في الأرض وذلك خلاف المعلوم من الدين ضرورة والمباح لايكون أعلى من المعاونة على إقامة المعروف وإزالة المنكر؛ لأنها أي المعاونة على ذلك من أعظم الفروض؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وقد تصير محرمة إذا كانت تؤدي إلى قوة ظلم الظالم بإجماع العترة "، فما ظنك بتسليم المال الذي لولاه لما انتصبت للظالمين راية ولا استمرت لهم دولة، وإنما السكون في الديار مع ذلك إيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39].(1/242)
[من يُعذر عن الهجرة]
وقال السائل: يجب أن يعرف جميع ما يكون المكلف معذوراً به عن الهجرة والوجه في الوجوب؟
والجواب والله الموفق: أنه لايعذر عن الهجرة إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي إليها سبيلاً؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:97-99].
وأما الوجه في الوجوب الذي ذكره السائل: فإن أراد وجه وجوب الهجرة فهو ما اقتضته هذه الآية الكريمة وما تقد م من الأدلة، وإن أراد وجه وجوب العذر أي وجه ثبوته فما اقتضاه الاستثناء في هذه الآية، وهو قوله تعالى: {إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ...} الآية إلى آخرها.
وقال السائل: وهل من جملة الأعذار عن الهجرة من له ضيعة ودار في بلده لم يقع له فيهما من الثمن لوباعه إلا دون ما يرغبه، ولم تسمح نفسه بذلك؛ لأنه لايحصل له بذلك الثمن في الموضع الذي يهاجر إليه إلا دون الذي باعه من أرضه وداره أو كان ثم مانع من اكتساب الأموال، وحينئذ يخشى الإنسان أن يشتغل بأمر معيشته فيقع في الطاعات تقصير بسبب ذلك، وطاعته في بلاده أكمل لانتفاء مثل ذلك؟(1/243)
والجواب والله الموفق: أن جميع ما ذكره السائل ليس يعذر عن الهجرة؛ لأن الله لم يستثن إلا من كان لايستطيع حيلة ولا يهتدي إلى الهجرة سبيلاً كما تقدم بيانه.
وأما المال فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ...} إلى قوله تعالى: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ...}[التوبة:24] الآية، أي من الله وطاعته، ومن رسول الله وطاعته؛ لأن المحبة تستلزم الطاعة بدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...}[آل عمران:31] الآية.
ويروى لعلي عليه السلام شعر وهو قوله [كرم الله وجهه في الجنة]:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه .... هذا محال في القياس بديع
لو كان حُبُّك صادقاً لأطعته .... إن المحب لمن يُحِب مطيع(1/244)
ومن جملة طاعة الله الهجرة كما تقدم الدليل على ذلك، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16] وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}[الشورى:20] وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، ومن ترك الهجرة لأجل ذلك فقد طغى بمعصيته لخالقه وآثر الحياة الدنيا وأراد حرث الدنيا وأراد الحياة الدنيا وزينتها ولم يرد حرث الآخرة ولاطاعة الله سبحانه إذ لو أراد ذلك لفعله.
وأما كون طاعته مع ذلك أكمل فهي في الحقيقة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؛ ولأنه مع ذلك غير متق لله سبحانه، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، وقال تعالى لمن آثر الحياة الدنيا: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:39]، وقال تعالى لمن أراد الحياة الدنيا وزينتها: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]، كما تقدم بيانه الآن.(1/245)
وأما كون طاعته مع الهجرة قليلة فليس ذلك بقليل، وكيف يقل ما يتقبل! والله سبحانه يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...}[الأنعام:160] الآية، ونحوها.(1/246)