[حكم الهجرة من دار الكفر ودار الفسق]
وقال السائل: لا نزاع في وجوب الهجرة من دار الكفر ودار الفسق -يعني أن يذهب إلى القول بذلك- وإلا فالخلاف في ذلك مشهور.
قال: لكن الأغلب على الأرض الإسلامية عدم خلوها من الفسق وقت خلوها من الأئمة "؛ لأنها إن غلبت عليها الدول الجائرة ظهر فيها بعض الكبائر كأخذ الأموال من غير إنكار نكير، وإن كانت الأرض غير مدولة ظهر فيها الخوف على الأموال والنفوس وظهرت الفواحش والخمور، قال: وحينئذٍ تسقط الهجرة من دار الفسق لعدم دار لا يوجد فيها ذلك.
والجواب والله الموفق: أن الهجرة من دار الكفر ودار الفسق واجبة، أما من دار الكفر؛ فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هاجر من مكة حرسها الله تعالى بالصالحين لما كانت دار كفر، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ}[الأحزاب:21]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال:72]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا بريء ممن وقف في دار الحرب)) أو كما قال، وزعم بعض أهل الأهواء أنها منسوخة بقوله صلى الله عليه وآله: ((لا هجرة بعد الفتح)) ليس شيء؛ لأنه إن صح الخبر فإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاستواء الدار بعد الفتح ولأن الخبر أحادي، ولا يصح أن تنسخ به صرائح الآيات من كتاب الله تعالى.(1/237)


وأما دار الفسق فإنه يجب أمر أهل المعاصي بالمعروف ونهيهم عن المنكر إذا كان ذلك ممكناً، ولا تحل الهجرة مع ذلك بل يجب الوقوف لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...}[آل عمران:104] الآية ونحوها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر...)) الخبر ونحوه، وإن لم يكن ذلك ممكناً وجبت الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي فلا يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعقاب)) ونحوه، ولا خلاف في ذلك بين أهل البيت " إذا كان ثم إمام، وإن لم يكن ثم إمام فقالت الناصرية والمؤيد بالله عليه السلام ومن وافقهم: لا تجب، وقالت القاسمية: بل تجب، وهو الحق؛ لأن الأدلة لم تفصل.
فإن قيل: إن جماعة من أهل البيت " في مدة الدولتين الأموية والعباسية لم يهاجروا من ديارهم.(1/238)


قلت وبالله التوفيق: لا حجة في ذلك؛ لأنه ليس بإجماع منهم؛ لأن المشهور أن كثيراً من عيون أهل البيت " كانوا خائفين ومشردين وذلك هجرة، وأيضاً فإنه قد روي عن محمد بن عبدالله النفس الزكية أنه أمر بالهجرة من ديارهم ولا إمام؛ لأنه كان قبل دعوته، وإن سلم فلعل الواقفين كانوا يقدرون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كانوا في أماكن لا يظهر فيها من المناكير مثل ما يظهر في غيرها، والهجرة إلى مثل ما صفته كذلك من الأماكن تجب إذا تعذر وجود دار أحسن منها كما سأبينه إن شاء الله تعالى فبطل قول السائل بسقوط الهجرة.
وقال السائل: هل تجب الهجرة إلى الهجر التي هي من جملة دار الفسق لكن المعاصي لا تظهر فيها لا لقوتهم؟
والجواب والله الموفق: أن الهجرة إلى ما ذكره السائل تجب إذا كان لا يوجد دار أحسن منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بالهجرة إلى الحبشة، وهي دار كفر لكنها كانت أهون من مكة لشدة كفر أهلها، وإعلانهم بشتم الإسلام والاستهانة به، فكذلك الحكم في دار الفسق إذ لافرق؛ ولأنا مأمورون بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أمر بذلك أمر إيجاب، فيجب علينا الأمر به كذلك، وذلك يستلزم الوجوب على المؤمنين، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)).(1/239)


[حكم المشاهدة لجمع الأموال في الأسواق بالكره]
وقال السائل: لو شوهد جمع الأموال في الأسواق بالكره، هل يجب على المكلف أن يعدل إلى مكان آخر من السوق؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا كان لا يقدر على النكير فلا يجوز دخول السوق أصلاً؛ لأنه مع ذلك بين ظهراني أهل المعاصي، وقد تقدم دليل تحريم الوقوف بين ظهرانيهم، فإن ألجت ضرورة إلى دخول السوق على حد الاضطرار إلى أكل الميتة جاز الدخول والتجنب قدر الاستطاعة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا أُمِرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
وقال السائل: هل يستحق الرعية الثواب، والعوض على الصبر والاغتمام بما أخذ منهم السلطان؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا أخذ السلطان منهم شيئاً وهم في غير الدار التي هو متولٍ عليها كأن يغزوهم وهم غارون فيأخذهم، أو كانوا يظنون أنهم يقدرون على دفعه فيغلبهم فيأخذهم، فلا شك أن لهم على ذلك العوض والثواب على الصبر والاغتمام عليه؛ لأنهم مظلومون ولا يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وإذا كان ذلك وهم في ديارهم، ويتمكنون من الهجرة منها فإن ذلك حرام عليهم يستحقون به من الله تعالى النكال والخلود في النار؛ لأنه مما يتقوى به الظالمون فكان من أعظم المعاونة على الظلم، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2].(1/240)


وزعم بعضهم: أن ذلك لايكون معاونة إلا مع القسط؛ وهو باطل؛ لأن الله يقول حاكياً عن الكافرين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى}[الزمر:3]، ويقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ على رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55] أي معيناً فجعل الله الكافر بعبادته غير الله معيناً على الله، وهو لاقصد له في المعاونة على الله وإنما قصد بذلك أن يقربه معبوده إلى الله زلفى، وكذلك العلماء يوجبون على صاحب الجدار المائل على طريق المسلمين رفعه، ويقضون بتحريم التراخي ويضمنونه ما أفسد ولا يشترطون في ذلك قسطاً، وكذلك يقولون: إذا كانت إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر تؤدي إلى قوة ظلمه فهي حرام، ولا يشترطون في ذلك قسطاً على أنما ذكرته قد أجمع عليه أهل البيت " على ما قررته في كتاب (التحذير)، ولعل السائل يطلع عليه إنشاء الله تعالى، ففيه من البيان وإزاحة الشبه ما تبرى به إن شاء الله تعالى علة العليل وتشفى به إن شاء الله حرارة الغليل.
وقال السائل: إنهم لم يسلموا الأموال إلا بعد القتل والطرد والنهب وغير ذلك؟(1/241)

48 / 85
ع
En
A+
A-