والجواب والله الموفق: أما تعظيمهما فوق تعظيم المؤمنين فإنه يجب ذلك فعلاً لا اعتقاداً إذا لم يبلغا ذلك في الواقع وذلك بأن يجعل لهما مزية في التعظيم ويؤثرهما بتلك المزية على غيرهما؛ لأن الله قد أوجب شكرهما وعطفه على شكره تعالى، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14]، ولم يشرك الله تعالى أحداً في شكرهما كما لم يشرك سبحانه أحداً في شكره، وما ذكرناه من جملة الشكر؛ لأنه في مقابلة تربيتهما قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًاً}[الإسراء:24]، وفي مقابلة حنوهما وشفقتهما ومحبة إيصال كل خير إليه، ولتحملهما أذاه من غير كراهة كما جميع ذلك معلوم من حالهما؛ ولقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ...}[لقمان:14] الآية، ولا مشارك لهما في ذلك.
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن زيد بن علي عليه السلام عن آبائه " عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن من تعظيم إجلال الله أن تجلَ الأبوين في طاعة الله)) فجعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك من تعظيم إجلال الله تعالى؛ لأنه امتثال لأمره كما تقدم بيانه.
وقال الهادي عليه السلام في (الأحكام) أيضاً: وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((النظر إلى بيت الله الحرام عبادة، والنظر في كتاب الله عبادة، والنظر في وجه الوالدين عبادة إعظاماً لهما وإجلالاً))، وعلى الجملة أنه لا يظهر في ذلك اختلاف.(1/222)


وأما سمع أمرهما في شيء من أمور الدنيا فإن كانا مضطرين إلى ذلك ومحتاجين له ولا معصية للخالق فيه فلا إشكال فيه؛ لأن الله قد وصاه بهما كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}[لقمان:14]، وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:23].
وأما إذا لم يكونا مضطرين ولا محتاجين إليه فكما يأتي إن شاء الله تعالى في أثناء الجواب على ما بقي من المسائل، ولا بد إن شاء الله تعالى من التنبيه على ذلك وإيراد ما أورده السائل والجواب عليه، والله الموفق.
وأما إذا كان فيه معصية لله تعالى فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وذلك معلوم من الدين ضرورة.
وقال السائل: إن كان تعظيم الوالدين لأجل الإنعام الواجب عليهما وجب على الفقير لمن صرف إليه زكاة أو نحوها مثله، وإن كان لأجل الزائد على الواجب وجب على من تفضَّل عليه للمتفضل مثل ذلك، وإن كان الأمر خارج فلا شيء يشار إليه غير ما أوجب الله تعالى للمؤمنين.(1/223)


والجواب والله الموفق: أن الله سبحانه جعل ذلك شكراً كما مر تحقيقه، والشكر ليس إلا في مقابلة النعم الواجبة وغيرها ولا يلزم مثل ذلك لمن صرف زكاته أو نحوها على المصروف إليه؛ لأنها عبادة لم يجعلها إلا لله خالصة لوجهه الكريم بخلاف الأبوين فإن الله جعل ذلك حقاً لهما، وجعل ذلك الحق من طاعته كسجود الملائكة صلوات الله عليهم لآدم عليه السلام حكمة منه وتفضلاً عليهما ورحمة لهما، ألا ترى أنه تعالى أمر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله كما تقدم ذكره! مثل ما أمر بالسجود لآدم وأوجب فعل المعروف إليهما ولو كانا كافرين، فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ على أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[لقمان:15]، فأنى لك! أنه لا شيء يشار إليه فيما ذكرناه سوى ما أوجب الله للمؤمنين مع ذلك، ومع ما أوجب الله لذي الرحم على رحمه مما لا يختلف فيه علماء الإسلام، وهما أحق ذوي الأرحام كما تقرر؛ ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي سأله فقال: يا رسول الله، من أحق الناس مني بحسن الصحبة وبالبر؟ قال: ((أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أبوك، قال: ثم من؟ قال: أقاربك أدناك أدناك)) ولا ينعكس الحكم حيث يكون الولد أكثر إنعاماً على والديه منهما عليه أو لم يكن منهما فعل معروف له سوى الولادة لما تقدم، وللإجماع على ذلك، وللقواعد الشرعية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس منا من لم يوقر الكبير.. )) الخبر، ومن تقديم الأكبر سناً في الإمامة الكبرى والصغرى [إذا(1/224)


استووا في الصلاح] لذلك كما هو مقرر في مواضعه.(1/225)


[مسائل في صلة الرحم وقطيعتها]
وقال السائل: ما تفسير صلة الرحم وقطيعتها؟
والجواب والله الموفق: أما صلة الرحم فهي القيام بما يجب لهم من العطية وترك هجرهم ولا يظهر في ذلك اختلاف.
وأما قطيعتها فهو الإخلال بذلك قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:22،23] ، وقال تعالى:{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}[النحل:90]،وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ}[الإسراء:26] الآية.
وعن الهادي عليه السلام في (الأحكام) ما لفظه: وبلغنا عن زيد بن علي رحمة الله عليه عن آبائه، عن علي رضوان الله عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب أن يَملأ له في عمره، ويبسط له في رزقه، ويستجاب له الدعاء، ويدفع عنه ميتة السوء فليطع أبويه في طاعة الله عزّ وجلّ وليصل رحمه وليعلم أن الرحم معلقة بالعرش تأتي يوم القيامة لها لسان طَلِقٌ ذَلِقً تقول: اللهم صِلْ من وصلني، اللهم اقطع من قطعني، قال: فيجيبها الله تبارك وتعالى أني قد استجبت دعوتك، فإن العبد لقائم يرى أنه بسبيل خير حتى تأتيه الرحم فتأخذ بهامته فتذهب به إلى أسفل درك من النار بقطيعته إياها كان في دار الدنيا)).(1/226)

45 / 85
ع
En
A+
A-