واحتجوا على ذلك بأن قالوا: المعصية مع السوابق تصير بجنبها صغائر، وذلك باطل لكونه احتجاجاً بمحل النزاع؛ لأنا نقول: إن السوابق لم تصير المعاصي معها صغائر، لأن الأدلة لم تفصل؛ ولأن الله يقول في أهل السوابق العظام كنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلموهو من أهل السوابق العظام: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً، إِذًا لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74،75]، ويقول تعالى: {قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزمر:13]، ويقول تعالى في أهل السوابق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين صبروا في المواطن وواسوه بالأنفس والأموال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2].
فإن قيل: إنا نجد الفرق بين من قدم الإحسان إليك ثم أساء وبين من يسيء من غير إحسان.(1/212)
قلت وبالله التوفيق: القياس على ذلك باطل؛ لأن أصحاب السوابق وغيرهم عباد مملوكون لمالك منعم فسوابقهم لم تكن إلا في مقابلة بعض النعم؛ لأن ما فعلوه محصى، ونعم الله سبحانه لا تحصى قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا}[إبراهيم:34]؛ ولأن ملكاً لو مُنع شربة من ماء عندما يشتد به العطش لا يبعد أن يشتريها بجميع مملكته، ولو كانت كملك سليمان لا سيما إذا علم أنه لا يقبض روحه مع العطش إلا بعد دهر طويل، فإذا كانت شربة أو أقل تساوي ملك الدنيا عند شدة الحاجة إليها فما ظنك بالعمل اليسير! وقد نشاهد كثيراً من يجهد يومه في الفلاحة وغيرها في مقابلة ما يساوي ربع قفلة ودون ذلك.(1/213)
والدليل على أن السوابق في مقابلة ما ذكرناه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ:13]، وهذا مما لا يختلف باختلاف الشرائع؛ [لأن شكر الله في الجملة لا يختلف باختلاف الشرائع] بالإجماع وذلك من الشكر بنص الآية، ولأن الله سبحانه قد أمر بالاقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم وآبائهم وإخوانهم وذرياتهم كما مر وآل داود منهم، وقد شهد بصحة ذلك رصين العقل، ألا ترى أن العقلاء يذمون العبد إذا أخل بامتثال أمر مالكه المنعم عليه لمكان الملك والنعمة وهذا من ذاك! فلما ثبت أن السوابق في مقابلة بعض النعم كانت المعصية قد قابل بها عبد السوء ربه في مقابلة نعمٍ لا تحصى، هذا إن سلمنا قبول السوابق مع ذلك، وإلا فالله سبحانه قد أخبر بأنها تحبط مع ذلك حيث قال تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23] وليس معنى ذلك إلا عدم قبول الأعمال.(1/214)
[معنى قوله تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين...]
فإن قيل: إذا كانت الأعمال في مقابلة النعم، فما معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32]، وقوله تعالى لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ...}[الحاقة:24] [الآية] ونحوها؟
قلت وبالله التوفيق: معنى ذلك كمعنى الزيادة التي ذكر الله في قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7]؛ لأن الزيادة قد جعلها تعالى في مقابلة الشكر تفضلاً، وكذلك الثواب جعله في مقابلة الأعمال تفضلاً، بل مذهب آبائنا " أن الثواب من جملة الزيادة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: {ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7] كما صرحوا بذلك في تفاسيرهم، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين عليه السلام كما يأتي [إن شاء الله تعالى].(1/215)
[أقوال العلماء في ذلك]
وذكره الهادي عليه السلام في (الأحكام) في كتاب (الديات)، والحسين بن القاسم عليهما السلام في (تفسيره) ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ}[الروم:45]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:34،35]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ...} إلى قوله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ...}[الدخان:51-57] الآية، وقوله تعالى: {سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء...}[الحديد:21]الآية، فهذه الآيات نصوص صرائح في أن الثواب من فضل الله والفضل غير واجب، يزيد ذلك بياناً قوله تعالى حاكياً عن أهل ثوابه: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور:27] والمنّ التفضل بلا خلاف.
وروى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حديث طويل: ((وبالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون، وبأعمالكم تقتسمون)).(1/216)