تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود:46]، وقد أمر الله أن يقتدى بالأنبياء " كما مر تحقيقه.
وأما قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}[الشورى:5] فالمراد به التائبون، بدليل قوله تعالى حاكياً عن الملائكة صلوات الله عليهم: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ...}[غافر:7] الآية.
وأما أهل الكبائر فإن الملائكة يلعنونهم، واللعن ينافي الاستغفار، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ....} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:159]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[آل عمران:86،87] يزيد ذلك تأكيداً قوله تعالى في وصفه للملائكة ": {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى...}[الأنبياء:26-28] الآية، والدعاء بالرحمة والاستغفار من جملة الشفاعة كما تقرر، والله لا يرتضي أهل الكبائر بدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87] أي لا يرتضيهم بدليل أنه لا يصح أن يقول: أحبهم وما ارتضاهم،(1/207)


ولا ارتضاهم وما أحبهم؛ للتناقض، وإنما يرتضي سبحانه عباده المؤمنين بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا...} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:93].(1/208)


[حكم فاعل المعاصي الملتبسة بين الصغر والكبر]
وقال السائل: فهل يحرم ذلك على من فعل معصية التبست بين الصغر والكبر؟ وهل يكون حكمه حكم صاحب الكبيرة؟
والجواب والله الموفق: أن من فعل من المؤمنين أي معصية على سبيل الهفوة مع التدارك لها بالندم والإستغفار فإنه لا يُحرم ذلك ولا يكون حكمه حكم صاحب الكبيرة في حال من الأحوال البتة؛ لأنهم لا يخرجون بذلك من جملة المؤمنين بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران:135،136]، وقوله تعالى فيهم: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201]، ومن فعل ذلك متعمداً فإنه يحرم الدعاء له بالرحمة والاستغفار له، ويكون حكمه حكم صاحب الكبيرة حتى يتوب؛ لأن الأصل في المعاصي الكبر كما هو مذهب عيون العترة "، ومنهم علي عليه السلام بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء:14]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[الجن:23]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا(1/209)


أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}[التوبة:63].
وروي في باب نواقض الوضوء من (الشفاء) عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)) ولا مخصص لذلك إلا ما ذكرناه آنفاً، وإلا ما وقع خطأ بدليل قوله تعالى مرشداً لعباده: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا...}[البقرة:286] الآية، أو إكراهاً بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:106] وقوله صلى الله عليه وآله: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).(1/210)


[تفسير قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه...]
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...}[النساء:31] الآية؟
قلت وبالله التوفيق: معنى ذلك: أنه تعالى يغفر ما وقع بعد ذلك هفوة؛ لأنه ليس محادة لله ورسوله، ولا يغفر ذلك لأهل الكبائر؛ لأنهم قد حادوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكونوا من المتقين، والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27] حتى يقبل توبتهم مما وقع هفوةً كالمؤمنين، ومن فعل ذلك من المؤمنين ولم يتب ولم يعلم تعمده ولا خطاؤه وجب الوقف لأنه إن قيل: الأصل الإيمان فقد عارضه بكون الأصل في أفعال المكلفين العمد بدليل أنه من قتل قتيلاً وادعى الخطأ لم يقبل قوله بإجماع العترة ".
وقد قيل: إن المعصية من أهل السوابق صغيرة ولو كانت عمداً.(1/211)

42 / 85
ع
En
A+
A-