[استغناء العلوم الإسلامية عن المنطق]
وعلى الجملة: أن جميع العلوم الإسلامية مستغنية عن المنطق؛ لأنه في معرفة الحد والبرهان، فأما الحد فهو: ضرب من التفسير، وقد ذكرنا وجه الاستغناء عنه، وهو الإقتداء بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغاء العرب، وأما البرهان فهو عندهم: وسط لمقدمتين يستلزم المطلوب، وهو قسمان: اقتراني، واستثنائي، وستأتي أمثلتهما إن شاء الله تعالى.
وعلوم الإسلام إنما تستمد من أصل عقلي أو شرعي أو قياس كذلك أو استصحاب حال كذلك، أو اجتهاد مطلق: إما بالأصل كقضية العقل المبتوتة في نحو وجوب شكر المنعم، والنصوص السمعية كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الأنعام:72] فلا يحتاج إلى ذلك ضرورة.
وإما بالقياس والمعتبر في ثبوته ثبوت الجامع بين الفرع والأصل بدليل أصلي عقلي أو سمعي، فمتى ثبت ذلك استغني عن المقدمتين وكفى بالتعبير عنه بنحو أن يقال: النبيذ حرام كالخمر لمشاركته له في المقتضى للتحريم وهو السكر مثلاً، وكذا في العقلي، ومتى لم يثبت لم يصح بهما ولو أمكن تركيبهما؛ لأنه مع تركيبهما يصير القياس من باب الحكم على العام بحكم النوع المختص به، وذلك معلوم البطلان كقول الملاحدة لعنهم الله إذا أرادوا بطلان القرآن بالبرهان الاقتراني وهو أربعة أشكال:(1/197)


في الشكل الأول: على شرطه وهو إيجاب المقدمة الصغرى، وهي المقدمة الأولى، وكلية الكبرى، وهي المقدمة الأخرى: القرآن كلام، وكل كلام يجوز أن يخالطه اللغو ينتج القرآن يجوز أن يخالطه اللغو -نزهه الله عن ذلك- وذلك كفر ورد؛ لقوله تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ}[فصلت:42].
الشكل الثاني: على شرطه وهو اختلاف مقدمتيه إيجاباً وسلباً أي: إثباتاً ونفياً وكلية كبرى: القرآن كلام، وكل ما لا يجوز فيه اللغو ليس بكلام كسائر الكلامات ينتج نحو ذلك.
الشكل الثالث: على شرطه وهو إيجاب الصغرى وكلية إحداهما: كل كلام يجوز أن يخالطه اللغو، والمراد المقيس عليه وبعض الكلام القرآن ينتج نحو ذلك.
الشكل الرابع: على شرطه وهو أن لا تكون إحدى المقدمتين جزء يسأل به كل كلام يجوز أن يخالطه اللغو والمراد المقيس عليه وكل القرآن كلام ينتج نحو ذلك.
وأما البرهان الاستثنائي: إن كان القرآن ليس بكلام لم يجز فيه اللغو، لكنه كلام ينتج نحو ذلك، وكذلك سائر ما بقي من البرهان الاستثنائي.
والرد عليهم: إن ذلك باطل من حيث أنا نعلم أن الكلام المتحقق فيه عدم اللغو عند العقلاء لم يجز فيه اللغو ضرورة، والقرآن من ذلك؛ لأنا قد تحققنا عدم اللغو بما قام من الدليل الباهر وهو المعجزات الشاهدة بصدق المبلغ كحنين الجذع، وشهادة الذئب والثعلب، وغير ذلك مما تواتر لمن بحث السير وكتب الحديث، وكعجز فصحاء العرب على أن يأتوا بمثله على أنه كلام من لا يجوز عليه اللغو وهو الله رب العالمين.(1/198)


فإن قيل: إنهم لا يثبتون ذلك إلا إذا كان النوع مشاركاً للعام في الحكم لا مع عدم المشاركة فإنهم لا يثبتونه وإنما يحكمون ببطلانه.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان لا بد من المشاركة فلا يخلو إما أن يكون بالقياس فقد جعلوا ذلك بيان المشاركة بصحة المقدمتين بين الأصل والفرع كما نبينه الآن، وذلك لا يجدي إلا فتح باب الجهالات والكفر كما تقرر أو بشمول العموم في اللفظ حتى يندرج الخاص في حكمه وذلك مناقضة لظاهر دعواهم حيث قالوا: إنه نفس القياس، ومن المعلوم عند العقلاء أن القياس غير الخاص المندرج تحت العام، ومن المعلوم أنهم يستغنون في التعبير عن ذلك عن البرهان فيقولون: لفظ الحيوان يتناول الإنسان لغةً، فإن وجدوا للخاص حكماً يخصه بدليل أجروه عليه وإلا أثبتوا له حكم العام وعبروا عنه بنحو قولهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا}[محمد:8] يتناول الفلاسفة لأنهم من الكفار، {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8] يتناول ما وضعوه من المنطق؛ لأنه من أعمالهم فتأمل.
وأما استصحاب الحال فيكفي في التعبير عنه بنحو أن يقال: لا تجب علينا صلاة سادسة؛ لأن الأصل العدم.
وأما الاجتهاد المطلق فيكفي في التعبير عنه أن يقال: قتل المترَّس به أهون من هدم الدين واستئصال شأفة المسلمين عقلاً.(1/199)


[حكم فعل سبب المحبة للعاصي]
وقال السائل: هل يحرم على المكلف أن يفعل سبب المحبة للعاصي كالمؤاكلة والمهاداة ونحوها؟
والجواب والله الموفق: أنه إن لم يرج بذلك صلاحه ولا معاونته على حق لم يجز ذلك بل يحرم لقوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[النساء:27] والمراد أهل المعاصي؛ لأن النار محفوفة بالشهوات كما في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل ما ذكره السائل ينافي الميل عنهم؛ ولأن الله قد حرم محبتهم كما تقدم، وذلك يستلزم تحريم سبب المحبة وإلا ذهبت فائدة الخطاب بالتحريم، وصارت لغواً ضرورة وذلك لا يجوز على الله سبحانه، والأدلة على تحريم ذلك كثيرة، وفيما ذكرته كفاية للمسترشدين.(1/200)


[واجبات المكلفين لكل مؤمن]
وقال السائل: ماذا يجب للمؤمن على المكلفين؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب على المكلفين لكل مؤمن أمور كثيرة:
منها النصيحة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم [((ألا وإن الدين النصيحة...)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم]: ((المؤمن مرآة أخيه))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس منا من غشنا)) إلى غير ذلك مما تواتر معنى وأفاد العلم.
ومنها مناصرته لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}[الحجرات:9]، ولما روى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من المسلمين، ومن سمع مسلماً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس من المسلمين)) ونحو ذلك كثير.
ومنها محبته لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56] وذلك يتضمن المحبة، ولما رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقول الله عز وجل: وجبت محبتي للذين يتحابون فيَّ...)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تؤمنوا حتى تحابوا...)) الخبر ونحوه، والإجماع المعلوم على ذلك إلى غير ذلك مما يجب للمؤمن مما يطول ويكثر تعداده.(1/201)

40 / 85
ع
En
A+
A-