[معنى السلام]
فإن قيل: فما معنى السلام؟
والجواب والله الموفق: أن السلام من أسماء الله تعالى قال تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ...}[الحشر:23] الآية، وبهذا المعنى يرد على الفساق.
وبمعنى السلامة قال الله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا على إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، فلا يجوز عليهم بهذا المعنى إذا قصد به سلامتهم في المستقبل كالرحمة سواء والدليل ما مر.
فإن قيل: فإن قصد المسلم بالسلام الله سبحانه أو السلامة الراهنة، وكذلك بقوله: ورحمة الله الرحمة الراهنة فأي محذور يلزم مع ذلك لو ابتدأ المؤمن بالسلام على من يجب قتاله أو رده عليه؟
قلت وبالله التوفيق: إن ذلك لا يحل لهم لما فيه من الإيناس لهم والتطيب لخواطرهم وذلك خلاف ما قال الله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة:123] فتأمل.
وقال السائل: فإن خشي المؤمن أن يهتك عرضه حيث لم يبدأ بالسلام، أو لم يكن سلامه شافياً، أو حيث لم يحسن خلقه لا سيما إذا كان العاصي قد فعل للمؤمن معروفاً ولم يحسن خلقه إليه فهل يجوز لأجل شيء في ذلك؟(1/192)


والجواب والله الموفق: أن العاصي إذا لم يكن من الذين يرجى صلاحهم أو من الذين يحل قتالهم لم يجب الابتداء بالسلام ولا رده لا شافياً ولا غير شافٍ، ولا تحسين الأخلاق إليهم لما تقدم مفصلاً، ولو كان المؤمن مع ذلك يخشى هتك عرضه؛ لأنه يجب على المؤمنين أن لا يخافون في الله لومة لائم، كما أخبر الله في كتابه، ولما روى المنصور بالله عليه السلام في (الشافي) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اجعل مالك دون دمك فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك)).
قلت وبالله التوفيق: فإذا قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجعل المال والدم دون الدين فما ظنك ببذل العرض دون الدين! ولأن هتك العرض قد قابله ارتكاب المحرم فتأثير صيانة العرض على صيانة الدين مندرج تحت قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، وكذلك إذا كان العاصي قد فعل للمؤمن معروفاً ولم يحسن خلقه إليه لا يرخص في ذلك؛ لما تقدم؛ ولأنه لا يجوز قبول ذلك من أصله؛ لأنه من أسباب التواد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها)) الخبر ونحوه، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ...}[المجادلة:22] الآية.(1/193)


[تحريم محبة وموالاة الكفار والفساق]
وقال السائل: ماذا يحرم على المكلفين للكفار والفساق؟
والجواب والله الموفق: أنه يحرم أمور كثيرة؛ منها محبتهم وموالاتهم؛ للآية المتقدمة آنفاً، ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...}[المائدة:51] الآية، وقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ على الإِيمَانِ...}[التوبة:23] الآية ونحوها، وهذا مما يعم الفريقين.
ومنها مناكحتهم لقوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ...}[البقرة:221] الآية، وهذا مما يخص المشركين.
ومنها مساكنتهم وعدم الهجرة من بينهم؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال:72] وهذا مما يعم إلى غير ذلك مما يطول ويكثر تعداده.(1/194)


[مسائل في المعاداة]
وقال السائل: ما تفسير المعاداة؟
والجواب والله الموفق: أن المعاداة هي: محبة المساوئ وكراهة المحاسن بدليل قوله تعالى في المنافقين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}[التوبة:50] مع قوله تعالى فيهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ...}[المنافقون:4] الآية، وهذا من خطاب التكميل، وقد يطلق على إساءة العمل إلى الغير بدليل قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...}[الممتحنة:1] الآية، فأعداء الله أساؤا إليه أعمالهم بعصيانه، وقد يطلق على من فعل خصلة من ذلك بدليل قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة: (وأعداؤك ثلاثة: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك).
والوجه في ذلك أنه إن عادى صديقك فقد كره لك خصلة من المحاسن، وأساء الفعل إليك بذلك، وإن صادق عدوك فقد أحب لك خصلة من المساوئ وأساء الفعل إليك بذلك.
وأصل المعاداة: من عدا إذا غشم وظلم، هكذا ذكر أهل اللغة، ولا يعد في ذلك لمناسبته.
وقال السائل: فإذا قيل: هي أن تحب له كلما تكره لنفسك، وتكره له كلما تحب لنفسك.
قلنا: فهل هو على إطلاقه؟
فإن قيل: نعم.
قلنا: المؤمن من جملة المكلفين بذلك، وهو يحب الإيمان لنفسه ويجب عليه أن يحبه لغيره من الفساق، ويكره له كلما يكره لنفسه من فعل المعاصي والإصرار عليها.(1/195)


والجواب والله الموفق: أنه يصح أن تفسر المعاداة بذلك كما ذكره الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام في (البحر)، وقد روى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن معاذ بن جبل سأله عن أفضل الإيمان؟ فقال: ((أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله، قال: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكرهه لنفسك))، ثم لا يرد ما ذكره السائل إلا على معتبري المنطق، وأما نحن فلا يرد علينا شيء من ذلك؛ لأنا مقتدون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسالكون مناهج العرب حيث جرى خطاب الله سبحانه في كتابه، وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، وخطاب بلغاء العرب في خطبهم وأشعارهم على الاعتماد على ألفاظ العموم التي يراد بها الخاص كالاعتماد على الألفاظ التي لا تدل إلا على الخاص اكتفاءً بما يدل على التخصيص من القرائن الحالية والمقالية ونحن نكتفي في إخراج نحو كراهة الكفر للغير وإدخال محبة نحو الإيمان بما علم من الدين ضرورة، وبذلك يعرف بطلان اعتبار المنطق في معرفة الحدود؛ لأن ما ذكرناه معلومٌ بالاستقراء.(1/196)

39 / 85
ع
En
A+
A-