[حكم بيع الرجا والأدلة على تحريمه]
وقال السائل: ما الدليل على عدم صحة بيع الرجا؟
والجواب والله الموفق: أن بيع الرجا ضرب من الربا فكان غير صحيح؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275].
وبيان كونه ضرباً من الربا أن عقده غير صحيح؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما البيع عن تراض)).
ووجه الاحتجاج بذلك أن التراضي معتبر بصريح الآية والخبر في تمليك البايع المبيع من المشتري حتى يجري فيه جميع تصرفه من الإتلاف والبيع والهدية والنذر والهبة والوقف، وعلى الجملة أن البائع يرضى بخروجه عن ملكه خروجاً نافذاً في مقابلة الثمن، وكذلك التراضي معتبر بصريح الآية والخبر في تمليك المشتري البائع الثمن تمليكاً ناجزاً في مقابلة المبيع وذلك إجماع.
وبيع الرجا لم يقع التراضي على تمليك البايع المبيع من المشتري تمليكاً نافذاً، ولم يقع من المشتري تمليك الثمن من البائع تمليكاً نافذاً حيث شرط الرد لمثله.
ومما يدل على أن عقده غير صحيح ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن بيع وشرط))، وعقد بيع الرجا بيع وشرط؛ لأنه يلفظ بعقد البيع وشرط لرد المبيع عند رد مثل الثمن.
وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن شرطين في بيع))، وبيع الرجا كذلك؛ لأنه بيع وشرط من البائع برد المبيع، وشرط آخر من المشتري برد الثمن.(1/172)
وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن بيع السنين))، وهو: بيع الشجرة سنتين أو أكثر أو أقل كذلك المستغلات كالأراضي، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن المعاومة وهو مثل بيع السنين، وذلك فيما لا يشرط فيه رد الثمن فما ظنك فيما شرط فيه ذلك وهو بيع الرجا! وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن الثنيا))، ومنه اشتراط رد المبيع والثمن كما في بيع الرجا، والنهي في العقود يدل على عدم وقوعها إلا ما خصه دليل؛ لأنها متوقفة على إذن الشارع، والنهي يدل على رفع الإذن وذلك معلوم من لغة العرب، فلما لم يقع العقد في بيع الرجا بصرائح الأدلة من الكتاب والسنة علمنا أنه ملتحق بالقرض [الذي يشرط فيه تسليم أرض أو شجر يستغلها المقرض بيده بقاء القرض] والإجماع المعلوم بين الأمة أن ذلك ربا، وقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275]، وقال عز قائلاً: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:275].
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) وهو في (الشفاء) أيضاً، عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لدرهم ربا أشد على الله من أربع وثلاثين زنية أهونها إتيان الرجل أمه)).
وعن أنس، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لئن يزني الرجل ستة وثلاثين زنية خير من أن يأكل درهماً من ربا)) رواه في (الشفاء) ونحو ذلك كثير.(1/173)
وزعم قوم أن النهي في العقود لا يدل على صحة ولا بطلان، قالوا: لأن الصحة هي أن يترتب على العقد ثمراته، والبطلان عدم ترتب ثمرات العقد عليه، والنهي إنما يفيد معناه اللغوي، وأهل اللغة لا يعرفون ثمرات العقود الشرعية لولا تعريف الشرع.
والجواب والله الموفق: أنه قد ثبت بالاستقراء المفضي إلى العلم أن النهي عند أهل اللغة يفيد رفع الإذن، وذلك كافٍ في بطلان العقود لرفع الإذن بها، ألا ترى لو أن سيداً أذن لعبده في صناعة لا يعرفها أهل اللغة ثم نهاه عنها! إن ذلك يفيد رفع الإذن بها بلا إشكال كذلك هذا.
وقال آخرون كأبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني: [إن النهي في العقود يدل على الصحة قالوا: لأنه إذا لم يفد النهي الصحة لم يصح الخطاب به؛ لأن المنع على الممتنع لا يصح كالمنع من طلوع السماء.
والجواب والله الموفق]: أن النهي في العقود قد أفاد رفع الإذن بها كما تكرر فالمنع إنما كان لأجل رفع الإذن، ولولا رفع الإذن لكان ممكناً فلا يمتنع الخطاب به لذلك بخلاف طلوع السماء فإنه غير ممكن [ولو أراد الإذن به تقديراً] فالفرق ظاهر.(1/174)
[مسألة في بيع الرجا]
وقال السائل: فإن عدل إلى أمر آخر قد أذن الشرع به يريد في تصحيح بيع الرجا وهو أن يبيح له منافع أرضه أو داره على غرض من الأغراض، وهو أن مالك النقدين أو نحوهما قد أذن لصاحب الدار والأرض بالإتلاف، ومتى انقضت مدة الإباحة وردّ له مثل ماله رجعت للمالك منافع ملكه، وكان ذلك بين المتعاملين بالتراضي وطيبة النفس، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) وهاهنا قد طابت النفس من جهتهما.
والجواب والله الموفق: أما أولاً: فإن صاحب النقدين إذا أذن لغيره بإتلاف ما سلم إليه منهما في مدة، وانقضت تلك المدة لا يقتضي منع المالك من منافع ملكه حتى يرد مثل ما قبض وأتلف إلا أن يكون المأذون بإتلافه قرضاً، والملك الممنوع المنافع رهناً في ذلك، ولا يظهر فيما ذكرته خلاف على سبيل الجملة، وذلك لا دلالة فيه على صحة بيع الرجا ولا فساده؛ لكونه أجنبياً عنه.(1/175)
وأما ثانياً: فإنه إن أراد بذلك أن صاحب النقدين قد أذن بالإتلاف في مقابلة المنافع، وصاحب المنافع قد أذن بالإتلاف في مقابلة النقدين وأنه، متى رد لصاحب النقدين مثل ماله يرجع له منافع ملكه، يريد أنه يرجع له منافع ملكه التي لم يأذن له بإتلافها، وهي الحاصلة بعد مضي المدة ورد الثمن لا غيرها كيلا ينقض غرضه فذلك أيضاً لا يدل على صحة بيع الرجا ولا حله ولو وقع به التراضي، وإنما هو عين علة الربا في القرض بالإجماع المعلوم، فكيف يصح أن يستدل به على تصحيح ما قد تقدم الدليل من الكتاب والسنة على أنه من جملة هذا الذي عين علة الربا المذكورة حاصلة فيه!
وقال السائل: إن بالناس حاجة ماسة إلى المعاملة به، ولا يلزم من ذلك محذور؛ لأن المنافع لم تكن إلا في مقابلة تسليم النقدين والإذن بالإتلاف.
والجواب والله الموفق: أن حاجة الناس إلى القرض بشرط استغلال أرض أو نحوها كالحاجة إلى هذا، والمنافع لم تكن إلا في مقابلة تسليم النقدين والإذن بالإتلاف، والإجماع المعلوم على أن ذلك لا يقضي بصحة القرض بشرط الاستغلال ولا يبيحه، وقد قام الدليل على أن بيع الرجا من ذلك كما تقدم.(1/176)