[حكم من عليه مظلمة وزكاة وفطرة وكفارة ونحوها وما له لا يفي بذلك]
وقال السائل: من عليه مظلمة ملتبسة وزكاة وفطرة وكفارة وخمس وحج، وماله لا يفي بذلك فقد ذكر العلماء في هذه الصورة أنه يقسط في كل منها حصته، هل يظهر لذلك فائدة؟ وما المانع في صرف المال في واحد من هذه الأمور، والحق كله لله تعالى؟
والجواب والله الموفق: أما الوصية بالحج مِنْ مَنْ ماله مستغرق بالحقوق فإنه يتعين صرف جميع المال في الحقوق دون الحج.
والوجه في ذلك أن وجوب الحقوق متعلق بالمال ومتعين كالزكاة، ووجوب الحج متعلق بالبدن، وينتقل إلى المال بالوصية إذا كان المال غير مستحق، والمال في هذه الصورة قد صار مستحقاً حيث تعلق الوجوب به وقد ذكر معنى ما ذكرته في هذا الأمير الحسين عليه السلام في كتاب الوصايا من (الشفاء)، وأظن أنه لا يخالف في ذلك أحد ممن يوجب إخراج وصية الحج من الثلث.(1/157)


وأما من يوجب إخراجها من رأس المال فلعله يوجب التقسيط بينها وبين غيرها من نحو ما ذكره السائل، ويحتج بأنه منصوص على تحجيج الغير عن الميت، وذلك لا يكون إلا بالأجرة، ويجب أن يكون من رأس المال كسائر الديون وهو مردود؛ لأن نذر المدنف المشروط بالموت ووصيته من المنصوص عليه، والنذر بعد التلفظ به وحصول شرطه يكون واجباً، والوصية بعد موت الموصي تكون واجبة، وهما معينان في المال، ولا يصحان من المستغرق ماله بالحقوق والديون بلا خلاف أعلمه، بخلاف التحجيج عن الغير فإنه إن ورد النص به لم يرد النص بتعيينه في المال كالنذر المذكور والوصية، فكيف يكون أعلى حالاً منهما! ويؤيد ما ذكرناه وقوع الإجماع على أنه لا يجب التحجيج عن الميت إذا لم يوص، وإن قال بعضهم بالجواز من الولد فقط، وذلك دليل واضح على أنه لا يتعلق بالمال بعد الموت، وإلا لوجب بغير وصية كالزكاة وسائر الديون، فلما اتضح لنا الدليل على عدم تعلقه بالمال علمنا أنه لا يزاحم الحقوق المتعلقة بالمال المستغرقة له فتأمل.
وأما سائر الحقوق فإن اتحد مصرفها فإنه لا يجب التقسيط؛ لأنه لا إجحاف في ذلك على أحد ولا مضرة كلو كان دَيناً لواحد عن أجرة وقرض وثمن مبيع إذ لا فرق.
وأما إذا لم يتحد المصرف بل تعدد وجب التقسيط لقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل:90]، وليس من العدل والإحسان ترك تقسيط الحقوق بين أهلها الذين يتضررون ويحتاجون.(1/158)


[كيفية التقسيط فيمن عليه ديون واجبة]
وقال السائل: يكون التقسيط على قدر عدد الواجبات كأن يكون في زكاة وخمس مثلاً فيجعل نصفين، ولو كانا متفاوتين في القلة والكثرة، أم يكون على قدر مقاديرها فيجعل لكل مصرف مقدار الواجب الذي يستحقه؟
والجواب والله الموفق: أنه يكون على مقاديرها فيجعل لكل مصرف بقدر الواجب الذي يستحقه؛ لأن خلاف ذلك خلاف العدل، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل:90].
وقال السائل: أيلزم ذلك؟ أم يستحب؟
والجواب والله الموفق: أنه يلزم ذلك ويجب للآية؛ لأنها نص على الأمر بذلك، وأمر المالك المنعم يقتضي الوجوب عقلاً؛ لأن العقلاء يستقبحون عصيان المالك المنعم والإخلال بأمره، ولغةً لأن العرب يعاقبون من أخل بأمرهم ويعتذرون بتقديم الأمر، وما ذاك إلا لأنه يفهم منه الحتم والإلزام وإلا لم يعتذروا به، وشرعاً لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63].
وقال السائل: من لزمه خمس حطب وحشيش بعد أن استهلكه أيجب فيه القيمة؟ أم يجب الإخراج من الجنس؟
والجواب والله الموفق: أن الوجوب متعلق بعين ذلك بلا إشكال، وهو قيمي فيجب أن يخرج قيمته كسائر القيميات إذ لا فرق.
وقال السائل: من أجر جملاً أو نحوه من آخر ليحطب عليه على أن يكون الحطب بينهما نصفين ثم صار حصة الأجير إلى مالك الجمل عن شراء أو نحوه فعلى من يكون الخمس؟ أعلى الأجير؟ أم على مالك الجمل؟(1/159)


والجواب والله الموفق: أن الخمس لازم للأجير؛ لأنه الغانم ويتعين في الحطب فلا يتناول عقد البيع أو نحوه إلا ما عدا الخمس لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...}[الأنفال:41] الآية أي خمس ذلك المغنم، ولم يقل فيه خمسه ولا مثله ولا عوضه وذلك واضح.
وقال السائل: إذا كان الجمل مغصوباً فهل يكون على مشتري الحطب ضمان؟
والجواب والله الموفق: أنه إن أراد السائل بالضمان ضمان الأجرة فإن الأجرة لا تلزم إلا المستعمل للجمل فقط؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}الإسراء:15]، على أنه لا يظهر اختلاف في أن من اشترى شيئاً قد حمل على مغصوب أو حفظ فيه أو صنيع به أنه لا يلزمه الأجرة ما لم يستعمله بنفسه؛ ولأن الأجرة إنما تلزم في الذمة، ولا يتعين في المال المعمول أو المحفوظ أو المحمول حيث لم يقع التراضي بذلك كهذه الصورة بإجماع العترة ومن وافقهم من مثبتي الإجازة فلا مدخل للضمان.
وإن أراد بالضمان ضمان الجمل فلا يضمنه المشتري للحطب أيضاً ما لم يقبضه كمن لم يشتر الحطب؛ إذ لا فرق على أنه لا يظهر في ذلك اختلاف.(1/160)


[وجوب إيصال الزكاة إلى المصرف]
وقال السائل: إذا لم يكن في الزمان إمام هل يجب على من وجبت عليه الزكاة إيصالها إلى المصرف وإن بعد؟
والجواب والله الموفق: أن المصرف إن لم يكن حاضراً ولا يرجو من وجبت عليه الزكاة حضوره أو حضور نائبه لتحشمه أو ضعفه وجب عليه إيصالها لتبرئ ذمته؛ لكون الواجبات المطلقة يتحتم المبادرة بها مع الإمكان كما تقدم تحقيقه في أثناء الجواب؛ ولأنه من المعاونة على البر والتقوى، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2].
وقال السائل: فإن احتيج إلى الأجرة على ذلك فعلى من تجب؟
والجواب والله الموفق: أنها تجب على المزكي لا على المصرف؛ لأن الوجوب قد تعين عليه كما تقرر، وما لا يتم الواجب إلا به يلزم وجوبه وإلا انتقض الوجوب والتحق بالنفل؛ ولأن المصرف لم يكن مالكاً لها قبل إيصالها وقبضه لها، ولم يكن منه إخلال بواجب بالتأجير فكيف تجب عليه الأجرة المنتزع بها حيث لم يؤذن بها في حمل ما لم يكن مالكاً له حينئذٍ! وهل ذلك إلا خلاف الإجماع! ولا يقال: إنها تجب من الزكاة؛ لأن الله تعالى قد جعل في مصرفها العاملين عليها، وحاملها إلى الفقير من جملة العاملين؛ لأنا نقول والله الموفق: إن العاملين عليها هم جباتها بإذن الإمام بإجماع المفسرين والفقهاء من أهل البيت وغيرهم، ولا قائل بأن من جباها أو حملها بإذن من وجبت عليه داخل في ذلك.(1/161)

32 / 85
ع
En
A+
A-