والجواب والله الموفق: أن ذلك لا يصح في جميع الصور المذكورة، وقد تقدم من الحجة على ذلك في أثناء هذه الجوابات ما فيه كفاية لمن أنصف، فلا حاجة لإعادتها هنا إلا مجرد التطويل.(1/152)
[العلة في عدم جواز صرف شيئٍ من العروض عن مظلمة النقدين على جهة التمليك أو الهدية]
وقال السائل: لِمَ لا يجوز أن يخرج شيئاً من العروض والمثليات عن مظلمة النقدين والفلوس على جهة التمليك أو الهدية والضيافة وليس الغرض من صرف الواجبات إلا نفع الفقراء ونحوهم، وذلك يحصل بالنقدين وبسائر القيميات والمثليات على السواء، بل ربما تكون الحاجة إلى غيرهما أدعى كالطعام والكسوة في بعض الأحوال والأوقات؟
والجواب والله الموفق: أن الهدية والضيافة لا تجوز كما مر في أثناء الجوابات، وأما التمليك فإن كان لتعذر النقدين أو الفلوس فقد تقدم الكلام على ذلك فارجع إليه، وإن كان لغير ذلك إما لاستواء الانتفاع بالنقدين والفلوس وغيرهما من المثليات والقيميات، أو لكون حاجة المصرف إلى غيرهما أدعى كما ذكره السائل، فالأحوط إخراج الفلوس أو النقدين لتعلق الوجوب بهما إجماعاً وعدم الدليل على إخراج غيرهما مع وجودهما، وإن احتاج المصرف إلى شيء مما في يد الصارف من غيرهما اشتراه بقيمته أو أقل ودفع إليه ما كان قد صار إليه من ذلك ثمناً، ولا يجوز أن يعطيه في ذلك أكثر من قيمته خوفاً من أن يكون إنما جعل الزائد على القيمة محاباة ومكافأة على ما اختص به من صرف تلك المظلمة فتكون رشوة لكونها في مقابلة واجب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ونحوه. والله أعلم.
ولما روي أن عمر بن الخطاب أعطى رجلاً فرساً في سبيل الله، ثم رآه يباع، وأراد ابتياعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؟ فقال: ((لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)).(1/153)
قال الأمير الحسين عليه السلام في (الشفاء): دل ذلك على قبح ابتياعه؛ لأنه ربما حاباه فيها لأجل إحسانه إليه.
وقال السائل: وهل يجوز صرف المظالم الملتبسة في الغني من أهل البيت " وإن لم يكن فيه مصلحة سوى أنه من المؤمنين؟ وهل يصح ذلك في فقيرهم العاصي؟ وهل حكم غير أهل البيت " في ذلك حكمهم؟
والجواب والله الموفق: أن الفقير والغني من أهل البيت " وغيرهم إن كانوا من المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله غير مداهنين للظالمين، ولا كافين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استصلاحاً لدنياهم فهم في ذلك على سواء.
والوجه في ذلك أن المظالم من جملة بيوت الأموال وبيوت الأموال يجب إخراجها إلى من كان حاله كذلك كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة الهادين من بعده.
وعن علي عليه السلام أنه لما انقضى أمر أهل الجمل دخل على بيت المال، فرأى فيه الْبِدَرَ من الذهب والفضة، فقال: (صلصلي صلصالك، فلست من أشكالك) فقسمه من وقته بين الناس بالسوية، ولم يخص أحداً من أحد.
وروي أنه خرج لكل واحدٍ خمسمائة، خمسمائة، وأعطى الحسن والحسين عليهما السلام خمسمائة خمسمائة، وأخذ لنفسه خمسمائة، فجاءه سائل فأعطاه نصيبه، وكذلك كان يفعل في بيوت الأموال ولم يشترط فقراً ولا صلاحاً سوى ما ذكرناه، وذلك معلوم لمن طالع السير والتواريخ.(1/154)
وروي أن عمر في خلافته كان يعطي الحسن والحسين عليهما السلام من بيوت الأموال وقت العطاء خمسة آلاف، خمسة آلاف ومثل ذلك كان يعطي أهل بدر، فلو كان ذلك مما يختص الفقراء لم يقبلوه أو لم يقبلوا الزائد على دون النصاب.
قال القاسم بن علي العياني عليه السلام في مسألة الرزق ما لفظه: (فأما من أصاب مما في أيدي هؤلاء الظلمة -يعني سلاطين الجور وأعوانهم- شيئاً من المسلمين الذين هم لله مطيعون فلا تبعة عليهم فيما نالوا مما في أيدي هؤلاء الظلمة؛ لأنهم إنما نالوا قليلاً من كثير أحله الله لهم وحجره على من سواهم من أعدائهم، وليس من أولياء الله أحد غني ولا فقير إلا وله في أموال الله نصيب) -يعني بأموال الله: بيوت الأموال. والله أعلم. وذلك صحيح لما قدمنا ما لم يتوصل إليه بإيناسهم ومجالستهم ومداهنتهم وإلا كانوا من أعداء الله وكان حراماً عليهم، والوجه واضح بعد التدبر لما ذكرناه أولاً وعليه يحمل قول زين العابدين عليه السلام: (من أكل من حلواهم مال إلى هواهم) لكن إذا لم يكن ثَمَّ إمام فإخراجها إلى فقراء بني هاشم أفضل لمنعهم من الخمس وعدم استحقاقهم للزكاة، وإذا كان أحد ظاهره الصلاح ولم يكن من المباينين لأعداء الله، ولا من الآمرين بالمعروف، ولا الناهين عن المنكر فلا نصيب له في ذلك، ولا كرامة، والوجه في ذلك أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن الأئمة الهادين أنهم كانوا يعطون من حاله كذلك إلا تأليفاً أو سد فاقته إذا كان أسيراً معدماً فقط، ولا يصح التأليف من أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من أئمة الهدى فقط(1/155)
وذلك مما لا يظهر فيه اختلاف، ولا يصح أن يقاس على الأسير؛ لأن الأسير لا يتمكن من التكسب لنفسه لكونه محبوساً بخلاف المطلق.(1/156)