وروي عن الحارث، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل مول ظهره يقول: لا والذي احتجب بالسبع، فضرب علي عليه السلام على ظهره، ثم قال: من الذي احتجب بالسبع؟، قال: الله يا أمير المؤمنين، قال: أخطأت، ثكلتك أمك! إن الله ليس بينه وبين خلقه حجاب، لأنه معهم أينما كانوا، قال: ما كفارة ما قلت؟ قال: أن تعلم أن الله معك حيث كنت، قال: أطعم المساكين؟ قال: إنما حلفت بغير ربك. فانظر كيف رجع إلى الحق واعترف به، ولم يطلبه أمير المؤمنين عليه السلام التعبير عن الدليل، وإن لم يجبه بجواب مطابق بل أخطأ في ذلك، وجب على من عرف ذلك هدايته وتعليمه بما يحتمله عقله ويفهمه من لغته؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى...}[البقرة:159] الآية، وأقرب ما يكون في ذلك وأوضحه أن يأتي له بدليل القياس، فيقول: لو كان الله يشبه شيئاً من خلقه جسماً أو عرضاً لوجب أن يكون مخلوقاً مثله لعدم الفرق؛ لأن العقل يقضي بالتماثل في المتماثلات، والتخالف في المتخالفات ضرورة، ألا ترى أنك لو رأيت بناء قديماً ولم يخبرك مخبر بأن له بانٍ أنك تعلم أنه محدث! وأن له بانياً قياساً على ما قد عرفت حدوثه من المبنيات بالمشاهدة! وكذلك سائر الأشياء، والله سبحانه قد احتج بالقياس على أهل العقول في مواضع كثيرة من كتابه العزيز قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ(1/147)
يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:5،6]، فقاس الله سبحانه لعباده إحياءه الموتى وخلقه لكل شيء حيث قال: {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: بما عرف حدوثه ضرورة بما ذكره في هذه الآية وما قبلها من خلق الإنسان، وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:78،79]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ}[الواقعة:62]، وقال الله سبحانه: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الإسراء:51] فقاس لهم سبحانه النشأة الأخرى بالأولى ونحو ذلك في كتاب الله العزيز كثير، وقد قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2] أي قيسوا، ولا يقال: إنه من العبرة الذي هو من البكاء؛ لأن أحداً لم يقل بوجوب البكاء؛ ولئن سلم فحمله على البكاء دون القياس تحكم، وعدم العمل بأيهما إهمال لخطاب الحكيم، وإهمال خطاب الحكيم لا يسوغ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا...}[طه:124] الآية. ومن زعم أن له من بيان الحجة للسائلين وعلى المعاندين أبلغ مما أودع الله في كتابه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه؛ لرده ما علم من الدين ضرورة، ولقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، فإذا عرف الله بذلك عرفه بأنه يجب عليه سؤال أهل العلم في أمر ما يجب(1/148)
عليه لربه كله، فإذا قيل ذلك كان من المهتدين، وجازت له الزكاة إن كان فقيراً غير هاشمي.(1/149)
[العلماء الذين تحل لهم الزكاة]
فإن قيل: قد ذكرت فيما سبق في جواب هذه المسألة أن غير العلماء لا تصح لهم الزكاة، ومن كان كذلك فليس من العلماء.
قلت وبالله التوفيق: ليس المراد بالعلماء في الآية هم الذين درسوا في العلم حتى رسخوا فيه فقط، بل المراد بها عموم من يعلم الله ويعلم حدوده، إما بالدرس وإما بالسؤال، بدليل أن الله سبحانه لم يحتم الدرس على جميع العباد وإنما جعله سبحانه من فروض الكفايات حيث قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}[النحل:43،44]، فأمر بالسؤال، وذلك يستلزم الأمر بمعرفة ما يسأل عنه للبعض، وإلا كان الأمر لغواً وعبثاً، والله منزه عن ذلك لكونه من صفات المناقص تعالى الله عنها، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((العالم والمتعلم شريكان في الأجر، إلا أن للعالم أجرين، وللمتعلم أجراً، فكن عالماً أو متعلماً، وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً)).
وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة في كلامه لكميل بن زياد رحمه الله تعالى: (الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، [يميلون مع كل ريح]، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق...) إلى آخر كلامه عليه السلام.(1/150)
[حكم الزكاة على البعيد عن وطنه]
وقال السائل: من كان بينه وبين وطنه مسافة بعيدة، وله في وطنه ما يصير به غنياً لا تحل له مع ذلك الزكاة إلا ما دام في سفره لعدم ما يملكه في ذلك السفر، إلا ما يبلغه إلى وطنه أو دون ذلك، أو لا يكون معه شيء من ماله أصلاً وعليه زكوات ومظالم هل له أن يساقط ما عليه من الواجبات ما دام في سفره، بأن يصرف إلى فقير بنية الرد، ثم كذلك حتى تبرى ذمته، كما جاز أن يصرف إليه الزكاة؟ وإلا فما الفرق؟
والجواب والله الموفق: إن كان معه ما يبلغه إلى وطنه فإنه لا يجوز صرف الزكاة إليه إذا كان في وطنه ما يصير به غنياً، ولا يظهر في ذلك اختلاف البتة.
وإن لم يكن ما يبلغه إلى وطنه جاز أن يصرف إليه من الزكاة مقدار ما يبلغه فقط بلا خلاف أيضاً، لكن إذا وصل وطنه ومعه من ذلك فضلة، فقد قيل: إنه لا يجب عليه إخراجه لأنه قد ملكه،واستحب له أن يخرجه لزوال الوجه الذي استحق به أخذه،وليس له أن يساقط ما عليه من الواجبات؛لأنه إنما استحق أخذ الزكاة ليتبلغ بها إلى وطنه، لمساقطة لم تشاركه في هذه العلة،وهذا وجه الفرق بينهما لا سيما مع ما تقدم من بطلان المساقطة. والله علم.
وقال السائل: هل تصح المساقطة بين الفقيرين حيث كان أحدهما يعلم أن عليه شيئاً من الواجبات والآخر يعلم أن لا شيء عليه، وكذلك إذا كانا محتاطين من غير علم بأن عليهما شيئاً، وإنما كانا يظنان أن عليهما شيئاً ظناً أو شكاً في ذلك، وأما إذا كان أحدهما محتاطاً دون الآخر فقد ذكر العلماء أن ذلك يصح؟(1/151)