وعن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي " أنه قال: (من شتم نبياً قتلناه) على أنه لا خلاف في معنى الخبرين، والقتل لا يكون إلا لأجل الكفر ونقض العهد في حق الذمي، وحد الزنا، وقتل النفس بغير نفس، والسعي في الأرض بالفساد كالدياثة، وقطع السبيل، والدعاء إلى الكفر والبغي على من أمنّه الله تعالى، وهذا ليس من السعي في الأرض بالفساد ولا بزنا ولا بقتل نفس بغير نفس، فما بقي إلا أن يكون كفراً، وإذا كان ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وآله كفراً فبطريق الأولى أن يكون في حق الله العلي الأعلى كفراً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولكني أرى أنه يجب على الإمام أن يؤدب من فعل ذلك لغرض كما ذكر السائل بعد التوبة أدباً بليغاً ليرتدع بذلك من لا خير فيه من الناس؛ لأن في ذلك صيانة للدين، والله سبحانه قد أوجب بذل أرواح المؤمنين وأموالهم في صيانة الدين في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ...}[التوبة:111]الآية ونحوها فما ظنك في صيانته بتأديب من قد تمرد على الله سبحانه؟!!
وقد ذكر المنصور بالله عليه السلام في باب الاجتهاد من (المهذب): (أن للإمام أن يوجب باجتهاده ما لم يكن واجباً).
وقد روي عن الهادي عليه السلام، أنه خرب دور وايلة وقطع أعنابهم وهم يجأرون بالتوبة، فلم يقلع لمصلحة رآها في ذلك.
هذا وقد خالف فيما ذهبت إليه في هذه المسألة جماعة من متأخري أئمتنا "، مثل الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد، والإمام يحيى، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى ".(1/142)
قال الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد عليه السلام ومن وافقه ما معناه: من نطقت بكلمة الكفر لتبين من زوجها وهي غير معتقدة للكفر أنها لا تبين بذلك مناقضة لغرضها، كقاتل العمد يناقض غرضه بعدم التوريث، وهذا باطل لمصادمته النص وذلك أنه قد ثبت النص، فيما مر على كفرها، وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ...}[البقرة:221] الآية نص على تحريم النكاح بينها وبين زوجها، والقياس يبطل بمصادمته النصوص إجماعاً، ولأن عدم توريث القاتل عمداً تغليظ في الحكم، ومناقضة غرض المتكلم بكلمة الكفر، تعطيل للحكم فلم تقع المشاركة في العلة؛ لأن الفرق بين التعطيل والتغليظ جلي، وقال الإمام يحيى عليه السلام ما معناه: إنما لم تبن بذلك لأنها لم تشرح بالكفر صدرها، حيث لم تعتقد معناه، وإنما هي في حكم المكرهة حيث فعلت ذلك لشدة الكراهة، وقد قال تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراًً}[النحل:106]، وقوى ذلك الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام.
والجواب والله الموفق: أنها قد شرحت بنفس ما نطقت به صدراً حيث فعلته مختارة بلا إرهاب ولا تخويف، وقد ثبت بما مر أنه سب لله ولرسوله وأن ذلك كفر، فبطل ذلك.(1/143)
وقوله عليه السلام: إنها في حكم المكرهة حيث فعلت لشدة الكراهة احتجاج بمحل النزاع؛ لأنا لا نسلم أن حكمها مع ذلك حكم المكرهة وإلا لزم أن تارك الصلاة لشدة كراهته التوضئ بالماء البارد، والحاج لشدة كراهة المشقة للسفر، والمجاهد لشدة كراهته ملاقاة الأعداء وخوف سيوفهم في حكم المكره، وكذلك يلزم أن يكون شارب الخمر لشدة كراهة مفارقته إذا كان قد تعوده في حكم المكره، ولا قائل بجواز ذلك البتة، والفرق تحكم.(1/144)
[حكم صرف الزكاة إلى الفقراء من العوام الجاهلين بأصول الدين]
وقال السائل: هل يجزي صرف الواجبات إلى الفقراء من العوام الذين ظاهرهم الجودة والعدالة، مع حصول الظن أنهم لو سئلوا عن شيء من مسائل أصول الدين لم يهتدوا إلى الصواب إلا بالتقليد؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب على المكلفين كافة ترك التقصير في معرفة خالقهم ومعرفة حدوده؛ لأن من لم يعرف الله فهو كافر، ومن لم يعرف حدوده فهو ضال جاهل، وكلا الأمرين معلومان من الدين ضرورة، فإذا أخرجه جهله إلى الكفر بالله سبحانه لم يصح صرف الزكاة فيه إجماعاً، وإن كان جاهلاً لحدود الله لم يخش الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، وإذا لم يخش الله فهو من الخاسرين؛ لقوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]، وإذا كان من الخاسرين فإقامته على ذلك من أعظم الفتن؛ لقوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}[الأعراف:27]، وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ...}[الأنفال:39] الآية.
وصرف الزكاة ينافي قتالهم ضرورة فإذا توهم مخرج الزكاة فيمن ظاهره الصلاح من العوام أنه جاهل بالله وحدوده، سأله بلطف عن كون الله سبحانه قديماً، قادراً، عالماً، حياً، ليس كمثله شيء، وأن المخلوق لا يقدر أن يُكيف الخالق بوهم ولا علم، ولا يدركه بشيء من الحواس في الدنيا ولا في الآخرة، وأن الله تعالى مختص بعلم ذاته.(1/145)
ويسأله عن حدود الله سبحانه وتعالى، جملة وأنه يجب الرجوع إلى سؤال أهل العلم إذا لم يكن من العلماء في جميع ما يلتبس عليه من أمر دينه، فإن أجابه عن ذلك بجواب مطابق للحق وجب قبوله، ولو لم يأت عليه بدليل؛ لأن كثيراً من الناس قد يعرف الحق ويعزب عنه التعبير عنه، لا سيما مع عدم الإطلاع على ما قد وضعه أهل علم الكلام واصطلحوا عليه من الألفاظ.
ولأن المعلوم من أحوال النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الهادين من بعده أنهم لا يطلبون الداخلين في الدين التعبير عن أدلة دينهم من لدن الدخول في أول الإسلام إلى يومنا هذا؛ لأن الله قد ألزم عباده القبول حيث يقول: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}[النساء:94].(1/146)