[حكم المبيع وتصرف البائع والمشتري بالنقدين المغصوبين]
وقال السائل: هل يكون المبيع في يده مع ذلك حلال؟
فإن قيل: نعم، فهل تبرى ذمة المشتري بالدفع من النقدين المذكورين؟
فإن قيل: لا، فهل للبايع أن يسترجع المبيع لتعذر الثمن حيث كان باقياً؟
والجواب والله الموفق: إنه إن لم يكن من المشتري تلبيس على البائع في الثمن الذي يدفعه إليه فالمبيع في يده حلال؛ لإنه لم يأخذه ظلماً بغصب، ولا خديعة، وإنما أخذه برضاه وطيبة من نفسه، وقد قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}[النساء:29]، وقال صلى الله عليه وآله: ((لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه))، ولكن لا تبرى ذمة المشتري بالدفع من النقدين المذكورين؛ لأنه أعطاه ما لا يملكه بدليل ما مر فالثمن باق في ذمته بلا إشكال، وللبايع أن يسترجع المبيع إن كان باقياً لتعذر الثمن والوجه في ذلك أنه لم يرض بإخراجه عن ملكه إلى ملك المشتري إلا بالثمن المتراضى عليه، فلمّا تعذر الثمن كان الرضا منتفياً ولا تأثير لمجرد العقد من دون تراض وعوض إجماعاً، والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29].
وقال السائل: هل للمشتري أن يمتنع من تسليم المبيع للبائع حيث حكم به -أي بالتسليم- حتى يرد المشتري ما أخذه من النقدين؟(1/122)
والجواب والله الموفق: أن هذا السؤال مضطرب، فإن كان على ظاهره فلا وجه لامتناع المشتري من رد المبيع الذي قبضه حتى يرد -أي المشتري المذكور- بنفسه ما أخذه من النقدين، وما الموجب لذلك والحامل عليه؟ وقد حكم بذلك الحاكم بتسليم ما كان قبضه من المبيع إلى البائع لتعذر الثمن وانتفاء الرضا كما تقدم ذكره.
وقال السائل: فهل للمشتري أن يصرف ما أخذه من البائع؟
والجواب والله الموفق: أنه لا وجه لصرف ما أخذه المشتري من البائع؛ لأنه إنما أخذ منه المبيع، وقد تقدم وجه أن للبائع الرجوع فيه وإنما يجب على المشتري رده إليه لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188].
فإن كان في تحرير هذا السؤال غلط، وأراد السائل أن يقول: هل للبائع أن يصرف ما أخذه من المشتري؟ -يريد [من] الثمن- وغلط بما ذكره الآن.
فالجواب والله الموفق: أنه يجب عليه أن يصرفه وجوباً، ولا يحل له أن يرده إليه؛ لأنه في يده أمانة حيث لم يتعد بقبضه، والله يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[النساء:58]، وليس أهل ذلك إلا مصرفه.
فإن قيل: إنه قد كان في يد المشتري أمانة فَلِمَ لا يرده إليه لأن أمانته متقدمة؟
قلت وبالله التوفيق: قد ذهبت أمانته وانقلبت خيانته بجعله له عوضاً في منافع نفسه، فلا يحل رده إليه رأساً للآية، وهذا هو مذهب أكثر العترة.
وقال أبو العباس، والمنصور بالله عليهما السلام: (إنه من رد الغصب إلى الغاصب فقد برئت ذمته).(1/123)
قال المنصور بالله: (لأن الضمان لا يتكرر، وذلك محل النزاع فلا يصح تعلقهما به) ولنا الآية.
وقال السائل: إذا كان البائع لا يتحرج في الثمن، وإنما غرضه بيع سلعته من غير مبالاة بالحرام، فما حكم المبيع في هذه الصورة؟
والجواب والله الموفق: أنه إن صادف الحل في ثمن سلعته، فلا إشكال في صحة البيع، وإن صادف الحرام في ذلك فالمبيع لبيت المال.
والوجه في ذلك أنه جعل عوضاً عمّا لا يحل، كمهر البغي وحلوان الكاهن، وأجر المغنّية، ولا أعلم اختلافاً بين أهل البيت " في أن ذلك يصير لبيت المال؛ ولأنه كالرشوة التي تجعل في مقابلة ما لا يحل وقد مرّت النصوص في أنها توضع في بيت المال.
وقد ذكر المنصور بالله عليه السلام نحو ما ذكرته في كتاب الغصب من (المهذب) لكن الذي ذكرته أنا في المبيع، والذي ذكره عليه السلام في الثمن، ولا فرق بينهما إلا دعوى كون النقدين لا يتعينان مع كونهما غصباً، وقد مر بطلان ذلك.(1/124)
[حكم الضمان على المأمور لقبض الأموال الملتبسة]
وقال السائل: من قبض شيئاً من بيوت الأموال بأمر آخر، والآمر والمأمور سواء في القوة والضعف إلا أن المأمور عليه الحياء مع كراهته لذلك في الباطن، هل يكون ضامناً في هذه الصورة لما قبض؟ وهل يضمن بذلك الآمر؟
والجواب والله الموفق: أن المأمور يضمن بذلك لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، والمعنى: لا تأخذوها وتذهبوا بها وتفوتوها على أهلها ولا أعلم خلافاً في هذا المعنى، ولقوله صلى الله عليه وآله: ((على اليد ما أخذت حتى ترد)) ونحوه، ولا تأثير للحياء؛ لأن الواجب على عباد الله أن لا يخافوا في الله لومة لائم، كما ذكره الله سبحانه في كتابه، والآمر حكمه مثل ما مر في جواب من أمر أن يأخذ في ثمن سلعته من النقدين المذكورين، فلا فائدة في التكرار.(1/125)
[أحكام السلم بالنقدين المغصوبين]
وقال السائل: إذا اجتمعت شروط السلم كلها إلا أن رأس المال من النقدين المذكورين، فهل يصح السلم؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يصح؛ لأنه يجب أن يُسّلِم المُسّلِم إلى المُسلم إليه ما يصح أن يملكه عوضاً عن المسلم فيه بالإجماع المعلوم في الجملة، وفي هذه الصورة لم يقع ذلك، وإنما أسلم ما لا يصح أن يتملكه واحد منهما بدليل ما تقدم.
وقال السائل: فلو فعلا ذلك وسلّم المُسلم إليه المسّلم فيه وقبضه المسّلم بالتراضي فما يكون حكم ذلك؟
والجواب والله الموفق: إن المسلم فيه يصير لبيت المال لما مر.
وقال السائل: فلو تواطأ البيعان على أن رأس مال السلم يكون شيئاً من العروض الحلال، وعلى أن المسلم يشتري تلك العروض بنقدٍ قد تراضيا عليه في رأس مال السلم من النقدين المذكورين، وكان فعلهما ذلك لأجل الضرورة، هل يصح ذلك؛ لأنه لم يكن حيلة في تحليل محرم؟
والجواب والله الموفق: أنه لا ثمرة لذلك إلا إفساد السلم، والتوصل به إلى تحليل المحرم.
أما فساد السلم؛ فلأن ذلك بيعتان في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله عن مثل ذلك؛ ولأنه بيع وشرط، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع وشرط، والنهي في الموضعين رفع للإذن بذلك لغة، ويدل عليه الاستقراء الموصل إلى العلم، والعقود الشرعية متوقفة على إذن الشارع بالإجماع المعلوم، فثبت فساده لارتفاع الإذن به.(1/126)