وأما قولهم: يفرق في العقل بين من أساء ولم يحسن، وبين من أساء وأحسن، فمردود بأن العقل يقضي ضرورة برد إحسان المسيء لأجل إساءته، ألا ترى لو أن رجلاً كان مصراً على الفجور بمحارمك وغير مقلع، وعلى قتل من ظفر به من ولدك، وعلى إفساد ما تمكن منه من مالك، ثم هو مع ذلك يتصنع إليك بشيء من الإحسان إليك أفلا يحسن في العقل رد إحسانه؟ وحرمة حدود الله أعظم مما عدّدت لك من خواصك مع أن ذلك مصادم لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]؟
فإن قيل: فعلى هذا يلزم قضاء ما فعل من الواجبات كالفوائت، والإجماع على خلافه.
قلت وبالله التوفيق: إن صح الإجماع وثبت فهو الدليل على عدم وجوب قضاء ذلك؛ لأنه قد تقبّل بدليل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] ونحوها.(1/117)


[وجوب إخراج شيئاً من العروض وسائر المثليات عن المظالم الملتبس أهلها من النقود وغيرها]
وقال السائل: هل له أن يخرج من العروض وسائر المثليات -يريد عن المظالم الملتبس أهلها من النقود وغيرها- إذا لم يجد إلا من النقدين المتقدم ذكرهما؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا كان لا يجد إلا ذلك وجب عليه إخراجه عن المظالم المذكورة؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، ولا يحل له التراخي لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:148]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا))، وقول علي عليه السلام: (وبادروا بالأعمال، عمراً ناكساً، أو مرضاً حابساً، أو موتاً خالساً) ونحو ذلك كثير.
وأهل التراخي يرخصون في ذلك قالوا: لأن الأمر المطلق غير مخصص بوقت دون وقت، فلو أراد الحكيم وقتاً بيّنه.
والجواب والله الموفق: أن الحكيم قد بينه فيما ذكرنا الآن؛ ولأن التأخير خلاف الإحتياط، والإحتياط في الدين واجب؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، ولأن المبادرة متفق عليها بين العترة "، والتأخير مختلف فيه، فوجب العمل بالمتفق عليه ورفض المختلف فيه لعدم الدليل.
قالوا: يلزم أن يكون فعل التراخي قضاء.
والجواب والله الموفق: أنه لا يلزم ذلك، وإنما تقديره افعل في الوقت الأول، فإن لم ففي الثاني مع التوبة؛ لأنك قد أثمت بالتراخي ثم كذلك، والدليل على ذلك ما مر لنا من إطلاق الأمر.(1/118)


قالوا: إن فريضة الحج نزلت لسنة ست من الهجرة فأخرّه صلى الله عليه وآله إلى سنة عشر.
قلنا: لم نعرف وجه تراخيه صلى الله عليه وآله، فلعله لعذرٍ، ولأن ذلك معارض بما مر لنا ولا قوة له على مصادمة الآية.
قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله منادياً: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله حاج، فمن أراد الحج فليحج، فعلّقه بالإرادة، وذلك يدل على التراخي.
والجواب والله الموفق: أنه لا دلالة على ذلك، وإنما هو كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}[المزمل:19]، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29].
إذا عرفت ذلك وجب إخراج ما في يده من العروض، ونحوها عن تلك المظالم على وجه لا يوهم أنه متفضل به كالهدية والضيافة لوجوب المكافأة على ما وقع كذلك قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[الرحمن:60].
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال لعائشة: ((أتروين شعر ابن عريض اليهودي؟)) قالت: لا، فقالت أم سلمة: ولكني أرويه، فقال لها: ((وكيف قال))؟: فقالت: قال:
أجزيك أن أثني عليك وإن من .... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((قال جبريل: يا محمد من أولاك يداً فكافه فإن لم تقدر فاثن عليه)).(1/119)


[وجوب الإخلاص لله عند إخراج المظالم]
وإخراج المظالم يجب أن تكون خالصة لله لا جزاء في إخراجها لأحدٍ سواه؛ لأنها حق لله، وإخراج حق الله عبادة ودين، وقد قال تعالى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، وقال تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3] ولأن إيهام التفضل بذلك ينبي عن محبته؛ لأن يحمد الموهم بما لم يفعل من محض التفضل بالمعروف، وقد قال تعالى: {يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا...}[آل عمران:188] الآية.(1/120)


[عدم الضمان للمتولي لبيع أموال التجارة بالنقدين المغصوبين]
وقال السائل: لو أن رجلاً كان يتولى بيع أموال التجارة ثم يأمر من يأخذ [له] الثمن من النقدين المقدم ذكرهما، ثم يأخذ سلعة، ثم يأمر من يسلم الثمن منهما ثم كذلك، هل يصير ضامناً لكل ما أمر بقبضه وتسليمه منهما كالفاعل؟ والغرض أنه ليس بملبس ولا بأقوى من المأمور بحيث لو أراد المأمور الامتناع من القبض لامتنع.
والجواب والله الموفق: أنه مع ذلك ليس بضامن لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]، أي ما يستحق بسبب وزرها في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ}[العنكبوت:12]، أي ما يعاقبون به من أجل خطاياهم في الدنيا والآخرة، وإن كان آثماً بنفس الأمر والرضا بالقبض، ولقوله صلى الله عليه وآله: ((على اليد ما أخذت حتى ترد))، وهذا لم يأخذ، وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا يأخذ أحدكم عصا صاحبه لاعباً ولا جاداً وإن أخذ عصا صاحبه فليردها إليه)) وفي رواية أخرى: ((لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه)) مكان عصا صاحبه، وهذا لم يأخذه، فلم يتناوله الأمر بالرد، اللهم إلا أن يكون قد ضمّه إلى مخازينه وغلّق عليه أبوابه، فإن ذلك آخذٌ له؛ لأن الأخذ إنما يكون من المخلوق بالجارحة، أو بآلة ضرورة وذلك من جملة الآلات.(1/121)

24 / 85
ع
En
A+
A-