والجواب والله الموفق: أنه إن كان يوجد في الناحية نقد حلال غير ملتبس لا تفاوت بينه وبين الملتبس، وكان يأخذ من الملتبس في ثمن عروضه مع تمكنه من أن لا يأخذ من المشتري ثمناً في بضاعته إلا من ذلك الحلال وجبت عليه الزكاة؛ لأن ملكه مستقر، وإنما خلط على نفسه؛ لأنه كان يمكنه أن يأخذ من الحلال، والزكاة تجب في الملك المتمكن منه إذا حال عليه الحول وكان نصاباً بالإجماع، وإن كان لا يوجد إلا الملتبس، فإن كان يتمكن من تفادي بضاعته وجبت عليه الزكاة أيضاً لمثل ما ذكرناه الآن وإلا فلا تجب؛ لأنه بالإياس من عروضه تلك يصير حكمه حكم من لا عروض له رأساً، ولهذا لم يوجب المسلمون زكاة على من تغلبّ على ماله الظلمة أو ذهب به اللصوص، والجواب عن الصورتين معاً؛ لأن الحكم واحد، فتأمل.(1/112)


[حكم المظالم الملتبسة من النقدين]
وقال السائل: من كان في ذمته من النقدين مظالم ملتبس أهلها، ولم يكن عنده إلا من النقدين المذكورين، فهل يصح أن يخرج منهما عمّا في ذمته؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا لم يكن من مصرفها كان إخراجه منهما عما في ذمته، كغسل أثر البول بالبول؛ لأنه يجب عليه إخراج ما في يده إلى بيت المال ولم يثبت له في ذلك ملك البتة بدليل ما تقدم، والقضاء عن المظالم الملتبسة إنما يكون بما يملك الإنسان أو بما يتبرع به مالك آخر لا بما حرمه الله عليه، ولا يظهر في ذلك اختلاف في الجملة.
وقال السائل: فإذا لم يجد شيئاً إلا ذلك النقد الملتبس، فهل يكون حكمه حكم الفقير حتى يجد ما يقضيه من الحلال؟ ثم قال: وإذا صار حكمه حكم الفقير، وأراد أن يخلص نفسه بأن صرف شيئاً إلى فقير آخر على أن يرده إليه، ثم يصرفه ثم كذلك، حتى تبرى الذمة فهل له ذلك؟
والجواب والله الموفق: أنه من جملة الفقراء إذا لم يجد شيئاً غير النقد المذكور، وكان من غير المصرف والوجه واضح؛ لأنه لا يملك شيئاً إلا الذي بيده من ذلك [النقد] ولا غيره.(1/113)


وأما ما ذكره السائل من صرف شيء إلى فقير على أن يرده إليه ثم يصرفه ثم كذلك حتى تبرى الذمة، فذلك حيلة لا تجري إلا على أبْله، وأما الله سبحانه فهو يعلم السر وأخفى وذلك أن مجرد عقد التمليك بصرف أو هبة أو نحو ذلك لا يقع به الملك ما لم يقع التراضي على أن يأخذه المعقود له، ويتصرف فيه تصرفاً يزيل عينه ومنافعه، وحكمه، وما أشبه ذلك بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ...}[النساء:29] الآية، فإذا كان لا يقع العقد في البيع إلا بعد التراضي، فكذلك ما أشبهه من سائر العقود؛ إذ لا فرق، وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه))، ولم يفصل بين المعقود عليه من المال وبين غيره، والعاقد لم تطب نفسه بتقويته حيث شرط أنه يرده إليه، أو كانا مضمرين لذلك فمجرد العقد مع ذلك غير واقع، وإذا كان غير واقع فلم يصرف شيئاً يبرى به، وإنما منى نفسه الخلاص ولات حين مناص.(1/114)


[شروط التوبة من الأموال المغصوبة]
وقال السائل: وهل تصح توبته -يعني الفقير الذي صار في يده شيء من النقدين المذكورين-؟
وقال: فإن قيل: لا تصح، قلنا: أليس التوبة من جملة الواجبات؟ وإذا كانت كذلك صحت ولو كان مخلاً بكثيرٍ من الواجبات كالزكاة والمظالم ونحوها، اللهم إلا أن يقال إن الواجبات شرط في الصحة فلا بأس بذلك بعد معرفة الدليل!
والجواب والله الموفق: أن توبته تصح بشرط التخلص من جميع الواجبات، والتجنب لجميع المقبحات لقوله تعالى:{وَإِنِي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، ولا تقوى مع تمادٍ على باطل.
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي...} إلى قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، وليس إحباط الأعمال إلا إبطالها وعدم قبولها، وذلك دليل واضح على عدم قبول التوبة مع التمادي على رفع الصوت فوق صوت النبي، والجهر له كجهر بعض المؤمنين لبعض؛ لأنها من جملة الأعمال وكذلك سائر المعاصي المحبطة؛ إذ لا فرق.
وقوله تعالى: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]، وذلك دليل واضح أيضاً على أن الأعمال باطلة إذا كانت معصية الله [ومعصية] رسوله ثابتة، والتوبة من جملتها الأعمال ونحو ذلك في القرآن كثير.(1/115)


وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا تقبل الصلاة إلا بطهور، ولا تقبل الصلاة إلا بقرآن، ولا تتم صلاة إلا بزكاة [ولا تقبل صدقة من غلول)) فقال صلى الله عليه وآله: ((لا تتم صلاة إلا بزكاة))] وكذلك سائر الواجبات لا يتم بعضها إلا ببعض؛ إذ لا فرق، ومن جملتها التوبة، وقد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) في باب القول فيمن يؤتم به في الصلاة ومن لا يؤتم به على أن صلاة الفاسق باطلة فاسدة، فقوله وقول جماعة من العترة موافق لما ذكرته هنا.
وقال أهل الموازنة بخلاف ذلك واحتجوا بقوله تعالى: {أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ...}[آل عمران:195] الآية، وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7]، وقالوا: يفرّق في العقل بين من أساء، ولم يحسن، وبين من أساء وأحسن، ولا حجة لهم في ذلك.
أما الآيتان فالمراد بهما المؤمنون دون أهل الكبائر بدليل قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...}[الأنعام:82]الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}[طه:112]، وجميع ما تقدم ذكره لنا من الحجج؛ إذ هي صرائح فيما ذهبنا إليه ونحو ذلك كثير.(1/116)

23 / 85
ع
En
A+
A-