[حكم التصرف في الأموال المغصوبة]
وقال السائل: إن قول الهادي ومن وافقه بالقول بعدم التعيين أن الغاصب إذا أخرج شيئاً من النقدين من يده لم يجب عليه الاستفداء بل يكون ما غصبه في ذمته يستلزم حل ذلك المخرج منهما لمن صارا إليه، وأيضاً قد روى ابن مظفر في الغصب، عن المرتضى عليه السلام: (أن الغاصب إذا أراد أن يجعل ما اغتصبه قضاء عن الدين صحّ ذلك، وذلك [يستلزم القول بحله] لمن أخذه في دينه).
والجواب والله الموفق: أن الله سبحانه يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، ورسوله صلى الله عليه يقول: ((لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه))، ويقول: ((على اليد ما أخذت حتى ترد))، والمعلوم انتفاء المخصص لهذه الأدلة.
وأما قول الهادي عليه السلام: (إن الغاصب إذا أخرج شيئاً من النقدين من يده لم يجب عليه الاستفداء بل يكون ما غصبه في ذمته) فلعدم التمييز في الأغلب لعين المغصوب منهما بعد خروجه للتشابه في الوزن، والشكل، والجنس إذ ذلك ربما يتعذر ويلحق بتكليف ما لا يطاق، أو لتعلق الغرض المقصود بهما وبجنسهما على السواء لجري المعاملة بهما وبجنسهما من دون تفاوت في الزيادة والنقصان؛ لأنا نعلم أنه متى سلّم جنسهما إلى صاحبهما وهو الذي غصبا عليه لم يقع منه مشاحة في الأغلب، فكان التفادي غير واجب لأحد الوجهين المذكورين، أو لمجموعهما، فلا يلزم من عدم وجوب تفاديهما بأعيانهما حلهما لمن صارا إليه من قبل مراضاة المالك.(1/107)


أما على الوجه الأول: فلأنهما قد صارا كالبر المغصوب بعد خروجه من يد الغاصب وتعذر معرفته بعينه، أو كالبقرة المغصوبة بعد خروجها من يد الغاصب [وتعذر معرفتها بعينها، فإنه لا يجب ردها بعينها؛ لأنه من تكليف ما لا يطاق] وذلك لا يقضي بحلهما لمن صارا إليه قبل مراضاة المالك بالإجماع.
وأما على الوجه الثاني: فلأنهما قد صارا كالبر المغصوب الذي يمكن ردّه بعينه، أو البقرة المغصوبة الذي يمكن ردّها بعينها، وكنا نعرف من مالكيهما أنهما يرضيان بأخذ غيرهما لو بذل له عوضاً عنهما، وذلك لا يقضي بحلهما لمن صارا إليه قبل مراضاة المالكين بذلك أو بغيره بالإجماع، فالفرق بين النقدين وغيرهما في مذهب الهادي عليه السلام تحكم.
وأما رواية ابن مظفر عن المرتضى عليه السلام: أن الغاصب إذا أراد أن يجعل ما اغتصبه قضاءً عن الدين صحّ ذلك، فمحمول على أن ذلك بعد مُراضاة المالك، وإلا ففي الرواية سهو؛ لأن ذلك مخالف للنصوص المتقدم ذكرها والإجماع المعلوم، والمرتضى عليه السلام أجل من أن يفتي بذلك، وعلمه، وزهده، وورعه مما لا يخالف فيه عدو، ولا ولي.(1/108)


[المقصود بعدم التعيين في النقدين عند الهادوية]
وقال السائل: وما تفسير عدم التعيين -يريد في النقدين- عند الهادوية؟ وما الدليل عليه؟
والجواب والله الموفق: إن تفسير ذلك هو: لو اشترى مبيع بنقدٍ معين فانكشف في ذلك النقد المعين معيب أو درهم مغشوش إن ذلك لا يبطل به البيع ويجب تعويض ذلك المعيب، أو المغشوش، وكذا لو اشترى بنقد معين، وسلم في المبيع مثله من جنسه أن البيع يصح.
وأما الدليل على صحة ذلك فقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، وذلك ممن يقع به التراضي بين المسلمين لتعلق الغرض بالبدل، والمبدل في النقدين على سواء، والمخرّجون قد أدرجوا في ذلك المغصوب وأفتوا بحله لمن صار إليه عوضاً عن بضاعته، والله سائلهم عن ذلك؛ لأن أئمتنا" لا يقولون بذلك، وإنما يوجبون تعويضه إذا استحق إلا أن يكون شيء من الذهب والفضة حلية مصاغة، وكانت معينة في الثمن وهي مغصوبة فإن البيع يبطل لتعلق الغرض بها خاصة لأجل الصنعة إلا أن يرضى مالكها بالمبيع عوضاً عنها صح البيع وملكه لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، مع صحة البيع الموقوف بالإجازة لخبر عروة البارقي، وخبر حكيم بن حزام في شراء الأضحية للنبي صلى الله عليه وآله فاشتريا وباعا، فأجاز فعلهما [صلى الله عليه].(1/109)


قال الهادي عليه السلام في (الأحكام) ما لفظه: (وكذلك لو وهب رجل لرجل دراهم فاستهلكها أو خلطها بدراهم مثلها، فاختلطت فلم تعرف بأعيانها من غيرها لم يكن له إلى الرجوع فيها سبيل؛ لأنه مال مستهلك غير قائم بعينه).
قلت وبالله التوفيق: وهذا واضح في أن مذهبه أن الدراهم يجب أن تتعيّن إذا كانت غير ثمن، فتأمل.
وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام في (المهذب) ما لفظه: (والدراهم والدنانير عندنا لا تتعين في البيع؛ لأن ذلك لا يعلم من قصود المسلمين وبذلك جرت عاداتهم، والعوائد أصل في ثبوت الأحكام).
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب ما لفظه: (وإذا عين المشتري ذهباً ثمناً للمبيع وكان الذهب لغيره لم يصح البيع إلا أن يرضى صاحب الذهب بالبيع ملك المبيع هو).
وقال السائل: الذي ذكر الهادي عليه السلام، ومن معه من عدم التعيين، والمرتضى من صحة القضا هو في المغصوب المعروف مالكه، وأما الملتبس مالكه فهل يكون حكمه عندهم في عدم التعيين وغيره حكمه؟
والجواب والله الموفق: أن الملتبس قد صار بيت مال كما تقرر فيما سبق، فإذا تصرف فيه غير مصرفه، فحكمه حكم المغصوب المعروف مالكه لانتفاء الفارق والمخصص.(1/110)


[حكم الزكاة في الأموال الملتبس حلالها بحرامها]
وقال السائل: هل الزكاة واجبة فيهما -يعني في الفلوس والنقدين الملتبس حلالهما بحرامهما-؟
والجواب والله الموفق: أنه قد ثبت فيما مر أنه لا يملكها المتصرف فيها إذا كان غير مصرفها، والزكاة لا تجب على المكلف إلا فيما يملك بالإجماع المعلوم، فهو معذور عن زكاة ما في يده من ذلك أبداً وغير معذور من إخراجه كله إلى مصرفه؛ لأنه إذا لم يحل له ولا لمن هو مثله لم يحل تضييعه، فلم يبق إلا أن يكون المصرف بيت المال.
وقال السائل: إذا لم تجب الزكاة فحيث يكون المكلف في وقت من الحول وعنده عروض للتجارة، وقدر ما تجب فيه الزكاة ثم أخرج تلك العروض بالبيع وأخذ ثمنها من النقدين المذكورين، ثم أخذ بالنقدين عروضاً ثم باعها وهكذا فهل تجب الزكاة في مثل هذه الصور؟ وكذا حيث باع العروض وأجّل بها إلى آخر الحول هل يجب في ذلك الزكاة أيضاً؟(1/111)

22 / 85
ع
En
A+
A-