[دحض حجة إباحة الأموال الملتبسة في دولة الظلمة]
ولعل الذين يرجحون الإباحة على الحظر يرخصون في ذلك، واحتجوا على أصل مذهبهم بقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]،[وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِفَ عَنْكُمْ...}[النساء:28] الآية، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن معنى قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]] مقصور على الترخيص في الصيام فقط للمريض والمسافر خاصة يدل على ذلك سياق الآية وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، مع أن الدين كله يسر بجنب المشتبه وغيره، وإنما العسر ما لا يطاق، والله سبحانه لم يكلفنا به قال تعالى: {لاَ يُكَلِفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286].(1/102)
ومعنى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78] أنه تعالى لم يكلف الناس ما لا يطيقون يدل على ذلك سياق الآية أيضاً حيث أمرهم سبحانه بالجهاد فقال: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، والجهاد أشق من ترجيح الحظر على الإباحة؛ لأنه تبذل فيه النفس وتخاف به فراق الروح الجسد، وتأيّم الحلائل ويتم البنين، وذلك مما تكرهه النفوس وتستشقه قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[البقرة:216].
ومعنى قوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِفَ عَنْكُمْ}[النساء:28] مقصور على الترخيص في تزويج الإماء عند العنت، وعدم الاستطاعة من نكاح الحرائر يدل على ذلك سياق الكلام [قبله] وهو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...}[النساء:25] إلى آخره، وأيضاً قد أمر الله بالصبر في قوله تعالى: و{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}[آل عمران:200] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:1-3]، وليس الصبر إلا على ما تكره النفوس.(1/103)
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله: ((حُفّت الجنة بالمكاره)) وترجيح الإباحة على الحظر لا كره فيه ضرورة، فلو كان المراد بقوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفّفَ عَنْكُمْ...}[النساء:28]الآية ترجيح الإباحة على الحظر لذهبت هذه الأدلة، وما تقدمها من الأدلة القاضية بتحريم المشتبه لغواً، وذلك لا يأتي في كلام حكيم البتة؛ ولأن ترجيح الإباحة على الحظر مما تهواه النفوس؛ لأنه حكم سقوط التكليف في المشتبه وقد قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص:26]، وإلى مثل ما ذكرته، وذهبت إليه في هذه المسألة ذهب أكثر الأئمة ".
قال علي عليه السلام: (يوشك الناس أن ينقصوا حتى لا يكون شيء أحب إلى امرئٍ مسلم من أخٍ مؤمن، أو درهم من حلال، وأنى له به). رواه زيد بن علي عليه السلام في (مجموعه).
وقال القاسم بن إبراهيم في (الخمسة الأصول) ما لفظه: (الخامس من الأصول: أن التقلب في الأموال في التجارات، والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام، وينتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام، والمكافيف والزمنى، وسائر الضعفاء ليس هو من الحل والإطلاق كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن).
وهذا الذي حضرني من كلاماتهم " بلفظه عند تحرير الجواب، وقد ذكرت ما يؤدي هذا المعنى من أقوالهم " في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) فخذه من هناك من المطلب الثاني في الفصل الرابع.(1/104)
وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام في (المهذب) ثم في باب المظالم ما لفظه: (وفي المعاملة مع الظالمين بدراهمهم ودنانيرهم وهي من مظالمهم وغيرها مما يجلب إليهم من ظاهر الحل أن الحكم للأعم الأكثر، فإن كان الأكثر الحرام فالمقبوض بيت مال بلا إشكال، وإن كان الأكثر الحلال فظاهره الحلال، فإن استويا في الظن رجح الحظر على الإباحة وكان المقبوض لبيت المال).
قلت وبالله التوفيق: قوله عليه السلام: وإن كان الأكثر الحلال، فظاهره الحلال يرد عليه الفتوى بذلك لكل أحد وبكل درهم حتى يستغرق الحلال والحرام، وذلك يتضمن تحليل المحرم، وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، ولا دليل يدفع هذه الآية بالتخصيص، ولا غيره.
فإن قيل: لعله عثر عليه.
قلت وبالله التوفيق: الأصل العدم فالبينة عليك؛ ولأنه لو صحت هذه الدعوى لم يصح التعلق بشيء من صيغ العموم؛ لأن لكل مخالف أو معترض أن يقول بمثل ذلك، وذلك معلوم البطلان بالإجماع المعلوم، ولله در عبدالله بن علي بن أبي الفرج حيث يقول:
عدمت الذي يسلو كعدمك درهماً .... تناوله من مستقر حلال(1/105)
[حكم قضاء الديون من الأموال الملتبسة]
وقال السائل: إذا حكم بالتحريم، هل يصح قضاء الدين منها وتبرى [به الذمة] وهبتها ونحو ذلك من سائر التصرفات؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يصح شيء من ذلك؛ لأنه تصرف فيما لا يملك بغير إذنٍ ممن جعله الله له، والمعلوم من الدين ضرورة أنه لا يصح تصرف أحد فيما لا يملك إلا بإذن من أهله بتوكيل أو نحوه، ولا يعلم، ولا يظن أن لذلك مخصصاً.(1/106)