والجواب والله الموفق: أنهما إن كانا كما ذكر، فقد صارا لبيت المال حيث علم التظالم فيهما جملة، ولم يعلم أربابهما المظلومون.
والوجه في ذلك أن الغاصب لهما لا يملكهما وذلك معلوم من الدين ضرورة وأربابهما لم يتمكن من الرد إليهم لعدم العلم بهم وتضييعهما حرام إجماعاً، فلم يبق إلا أن يكونا لبيت مال المسلمين على أنه لا خلاف في ذلك، وإذا كانا لبيت مال المسلمين لم يحل أن يتعامل بهما غير مصرفهما؛ لأنه يصير بذلك غاصباً، والوجه ظاهر.
وقال السائل: إذا حكم بالتحريم فلقائل أن يقول: حكمتم به لأجل هذه الحالة، وأنتم من الحل على يقين وهو أن أصل الأشياء الإباحة وأن كل من كان في يده شيء، فالظاهر أنه له ليغتنم بذلك الحمل على السلامة ما لم يعلم أن هذا الشيء غصبه بعينه، والشك لا يدفع اليقين ولا الظن أيضاً، وإلا احتيج إلى دليل أن اليقين يدفع بذلك، ويلزم من القول بالتحريم أن لا يستغني الإنسان بنفسه حيث لم يكن له حرفة إلا المعاملة، والعقل يحكم بقبح ذلك ولاسيما عند الحاجة، وقد ذكر العلماء أن ذلك واجب واستغناء الإنسان بنفسه محال، فقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك) فنهاه صلى الله عليه وآله عن ذلك وقال: ((قل: اللهم، لا تحوجني إلى شرار خلقك))؟ أو كما قال!(1/97)
والجواب والله الموفق: إنما حكمنا بالتحريم بعد اليقين حيث قال السائل: إنه قد علم فيهما التظالم على سبيل الجملة، فقوله بعد ذلك: والشك لا يدفع اليقين ولا الظن أيضاً مناقضة محضة؛ لأنه لم يقل فيما تقدم أنه قد حصل الشك، أو الظن في حصول التظالم فيهما بل قال: وإنما علمنا حصول التظالم في بعضها دون بعض لكنه التبس علينا الحلال بالحرام، فنحن نشك في شيء مُعيّن يصير إلى أيدينا أو نظن أنه حرام، وأصل الأشياء الإباحة.
قلت وبالله التوفيق: قد علم التباس الحلال بالحرام، فكان المعارض للأصل هو العلم لا الشك ولا الظن، فالشك أو الظن في تحريم الذي صار في أيديكم منها ليس بطارئ من حيث أنه قد علم أن الذي يضربه الظالمون بعضه حرام من أول دخوله في أيديهم، وبعضه حلال جرياً على ما ذكرت في هذا الاعتراض، فكيف يكون طارئاً ولمّا لم يكن طارئاً لم يكن من الحل على يقين! سلمنا كون الشك أو الظن في ذلك طارئاً على سبيل التنزل لكن لا نُسلم أنه لا يدفع اليقين فيما يتغير حاله خاصة إذا تواردا على محل واحد كهذه الصورة؛ لأن ذلك واقع ضرورة.(1/98)
ألا ترى أنك تكون من عافية زيد على يقين فيغيب عنك فيخبرك غداً بموته أو مرضه أنه يحصل لك بذلك ظن أو شك بموته، أو مرضه! ومع ذلك ينتفي اليقين ضرورة؛ لأن اليقين وما يقابله من الشك، أو الظن أو الجهل نقيضان لا يجتمعان، فهذه حجة واضحة على أن الشك والظن كل واحد منهما إذا حصل يدفع اليقين إذا توارد على محل واحدٍ لا يمكن ردها إلا بالسفسطة ولا يرد معارضة المتواتر بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد ليس بشك ولا ظن فيدفع اليقين الحاصل بالمتواتر، ولا يحصل به مع التواتر شك ولا ظن، وذلك معلوم عند كل عاقل.
وأعجب من ذلك ما يقوله بعضهم إن الظن لا ينقضه الظن، وذلك خلاف المعلوم ضرورة.
ألا ترى أنه يحصل لك عند التباس القبلة ظن بها في جهة من الجهات ثم يطرأ عليك ظن آخر ينقضه أنها في الجهة الأخرى وأن ذلك واقع كثيراً، وقد نص العلماء على ذلك، وكذلك المجتهدون المعتبرون في اجتهادهم حصول الظن فقط يتغير اجتهادهم وينقض الظن فيه الظن، فينتقل الواحد منهم عن القول بالشيء إلى القول بخلافه، وينقض الشك فيه الظن أيضاً فينتقل من القول بالشيء إلى التوقف فيه أو العكس، فنعوذ بالله من جحد الضروريات، ونسأله التوفيق والسداد.(1/99)
وإذا علم التباس الحلال بالحرام كان الملتبس بالحرام حراماً لانتفاء العلم بحله، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، فما ظنك فيمن يتبع المشكوك في حله [وقد] قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}[الأنعام:120]، ومن ظاهر الإثم ما اتضح وتبيّن أنه إثم، ومن باطنه ما غمض بالتباسه بما لا إثم فيه، وقال صلى الله عليه وآله: ((الحلال بيّن، والحرام بيّن وبين ذلك أمور مشتبهات وسأضرب لكم مثلاً، إن الله حمى حمىً، وإن حمى الله محارمه وإن من يرع حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى))، وقال صلى الله عليه وآله: ((حلال بيّن وحرام بيّن وبينهما شبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وعنه [صلى الله عليه وآله أنه قال: ((من دار حول الحمى يوشك أن يقع فيه))، وقال] صلى الله عليه وآله: ((إن العبد لا يكتب في المسلمين ..))الخبر إلى أن قال: ((ولا يُعَدُّ من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذار ما به البأس)) إلى غير ذلك مما تواتر معنىً وأفاد العلم الذي لا يمكن دفعه إلا بالمكابرة.(1/100)
وقال علي عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة: (فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)؛ ولأن القول بحل الملتبس بالحرام متضمن لإباحة الحرام؛ لأنه متى قيل: إن الذي يقع في يدي لا أعلم أنه محرم بعينه، وأصل الأشياء الإباحة لزم القول بمثل ذلك لكل فرد من أفراد الناس، ولكل درهم من الملتبس حتى يستغرق الحلال والحرام؛ لأن التخصيص تحكم والمعلوم من الدين ضرورة تحريم إباحة الحرام.
وأما قول السائل: ويلزم من القول بالتحريم أن يستغني الإنسان بنفسه حيث لم يكن له حرفة إلا المعاملة...إلى آخره، فإنه لا يلزم ذلك ضرورة، وإنما يلزم من ذلك الحاجة إلى غيره، فيكون الخبر الذي أورده حجة لنا، فلا يكون ذلك مما يقضي العقل بقبحه فتأمل.(1/101)