[حكم المعصية التي بصورة الطاعة]
فإن قيل: وكيف تكون المعصية بصورة الطاعة؟
قلت وبالله التوفيق: ذلك غير عزيز إذ هو كما تقدم ذكره، وكصلاة المرائي وصيامه وحجه وسائر قربه؛ فإن صورتها صورة الطاعة وهي من الكبائر عند الله بالإجماع، وقد قال الله سبحانه في الذين يكون حالهم كهذا القدوة المتقدم ذكره: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}[الأنعام:119]، وقال سبحانه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ...}[النحل:25]الآية، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:12]، أي والسنن الحسنة، والسيئة التي سنُّوها لمن يقتدي بهم، وقال النبي صلى الله عليه وآله: ((من سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها، ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار الناس شيئاً))، أو كما قال.
وقال عليه السلام: (كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً، وإذا كان خطأ كان داء)، أو كما قال، وقد جزنا في هذا عن المقصود؛ لأن الخبر ذو شجون.(1/92)
[حكم الأموال المسلمة لدولة الجور والبغي]
وإن كانت الدولة من أهل البغي وكانت تقبض ذلك من أهل الإسلام، أو من أهل الذمة كان ذلك المال بيت مالٍ إذا سلمه أربابه مداراة مع التمكن من الهجرة، أو رغبة في معاونة الجبّارين لا يحل أن يجعل إلا في مصرفه، وإن تعدى به إلى غيره وتصرف فيه غير مستحقه كان غصباً.
والذي يدل على كون ما شأنه كذلك بيت مالٍ ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((هدايا الأمراء غلول)) وفي رواية: ((هدايا العمال غلول))، وكان يأخذ هدايا عماله ويضعها في بيت المال، ولا يظهر خلاف في ذلك على سبيل الجملة.
ووجه الاحتجاج بذلك أن هدايا الأمراء في الأغلب [لا تكون] إلا في مقابلة واجب أو محظور.
أما الواجب فنحو الكف عن ظلمهم، والتعدي عليهم.
والمحظور نحو الإعانة على ما لا يحل والتقرب إلى أئمة الضلال وأرباب الفساد، وما يسلم للدولة الجائرة من ذلك، فاندرج تحت عموم الخبرين ووجب وضعه في بيت المال.
ومما يدل على ذلك قوله عليه السلام يوم الجمل: (ولا تستحلوا مالاً إلا ما جباه القوم، أو وجدتموه في بيت مالهم)، فلو كان ذلك باقياً على ملك من سلّمه لما قال ذلك، مع أنه عليه السلام كان يمكنه معرفة أربابه من أهل وطأتهم، فيقسمه بينهم على السوّية، ويبّين مدعي الزيادة، والفضل لا سيما في المثليات كالدراهم والدنانير، فلم يفعل ذلك وإنما أخذ ما وجد في بيت مالهم، فقسمه بين المجاهدين من أصحابه فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة.(1/93)
فإن قيل: إن بين الهدايا وبين ما يسلّم إلى سلاطين الجور من الأموال فرقاً؛ لأن الهدايا لم يتقدمها تخويف بخلاف ذلك فإنه لم يسلّم إلا بعد التخويف.
وأما فعل علي عليه السلام، فلعل المال سُلّم إلى أهل الجمل بالرضا والاختيار فهو مما أجلب به عليهم أو أن أربابه غير منحصرين، والمحصلون من أهل المذهب يقولون: إنما صار في أيدي الظلمة من الأموال لبيت المال لاستهلاكه بالخلط في القيمي والمختلف ولعدم انحصار أرباب المال في المثلي، وظاهر كلامهم التعميم.
قلت وبالله التوفيق: لا نسلم الفرق؛ لأن هدايا الأمراء كثيراً ما تكون بعد التخويف بلا شك، والأدلة لم تفصل؛ ولأن أرباب المال راضون ومختارون لتسليمه لأجل أن يسكنوا في بيوتهم ويتصرفوا في أملاكهم بدليل أنهم متمكنون من أن لا يفعلوا ذلك إما بالهجرة، أو بالاجتماع على الذب عن أنفسهم وترك التخاذل، وأن لا يتعلقوا بشيء مما يطالبون بالمال من سببه، وقد ترى كثيراً من الناس يكون في بلدٍ غير بلده، ثم يقصر عنه نعمة من ربه، فيرجع إلى بلده مختاراً لتسليم المال إليهم من غير تخويف وصل إليه ولا ضرورة ألجته إلى ذلك إلا حب الديار، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، فلا شك مع ذلك أنهم مجلبون به على أهل الحق وعلى الضعفاء والأرامل والمساكين، ومقوون به لأعضاد الظالمين؛ إذ هو عمود مملكتهم من حيث أنهم لا يتقوّون إلا به ويعسكرون به العساكر ويحصلون به العدد، ويحصّنون به الحصون إلى غير ذلك من أركان الملك، فإن كان فعل علي عليه السلام لأجل رضا أرباب المال بتسليمه، فهذا منه.(1/94)
وأما دعوى عدم انحصار أربابه فغير مسلَّم؛ لأنه قد أمكن حصرهم في الديوان عند جباة الأموال وجمعها، فحصرهم بعد ذلك أسهل إذا رجعوا إلى الديوان المكتوب، وإن سلم عدم حصرهم على التنزل فما المانع من أن يطلب علي عليه السلام من أمكن من أهل أوطانهم؟ ويقول من أعطاهم شيئاً من ماله وبيّن على كيفيته أعطيناه وهو يعلم أن الله يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: ((لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) وهو كرم الله وجهه يقول: (والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً أو أُجر في الأغلال مصفداً أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام...) الكلام بطوله إلى أن قال عليه السلام: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته)، وإلإجماع منعقد على أنه من ادّعى أن الظالم من البغاة والمجاهرين اغتصب عليه غصباً، وبيّن عليه وجب أن يرد إليه ولو بعد استيلاء المحقين عليهم ما دام باقياً بعينه، وكذلك إذا علمه المحقون يجب عليهم ردّه لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، وللخبر المتقدم ذِكره والإجماع أيضاً.(1/95)
[حكم الأموال في أيدي الظلمة]
وأما ما ذكره المحصلون للمذهب من أنه لا يصير ما في أيدي الظلمة من المال لبيت المال إلا إذا استهلك بالخلط في القيمي والمختلف، ولعدم انحصار أرباب المال في المثلي فمردودٌ بما ذكرته أنا الآن وبما ذكروه هم من قولهم: إنه يوقف حتى يراضي أربابه، فإن رضوا حلّ لمستهلكه وملكه ولم يضر بيت مال أو يخشى تلفه فيتصدق به، ونحن نعلم أنه يمكنهم مراضاة أربابه ولو رده؛ لأنهم محصورون في ديوانهم فأنى لهم! مع ذلك أنه يكون بيت مال، اللهم إلا أن يرجعوا إلى ما ذكرنا.
وقد نص على معنى ما ذهبت إليه في هذه المسألة الهادي عليه السلام في (الأحكام) وحكاه عن جده القاسم عليه السلام في (الأحكام) أيضاً، ولم يستثن -أعني الهادي عليه السلام إلا المغصوب إذا كان باقياً بعينه، وقال في ذلك ما لفظه: (فإن أقام أحد من المسلمين بينة على شيء بعينه قائم لم يتغير ولم يستهلك، فأقام عليه البينة أنه غصبه غصباً فأخذ منه ظلماً وجوراً سُلّم إليه، ويدفعه الظالم إلى يديه)، ومثل ما ذكرت أيضاً ذكر القاسم بن علي العياني عليه السلام في مسألة الرزق، وكذلك ذكر غيرهم من الأئمة الأعلام ".
وإن كانت الدولة الجائرة تغصب الدراهم والدنانير والفلوس غصباً، أو تغصب الفضة والذهب، والنحاس فتضربها كان جميع ذلك غصباً، والوجه في ذلك ظاهر.
وقال السائل: إن النقدين والفلوس لم يعلم فيهما الغصب بأعيانهما، وإنما علمنا حصول التظالم فيهما على سبيل الجملة، فهل تحل المعاملة بهما؟(1/96)