وخصمنا يدَّعي أن الذي أُمِرنَا بالكف عنه في هذه الآية هو بعض الطاعات بل سنام الدين، وهو الجهاد في سبيل رب العالمين، ولا يجدون لهم على ذلك شاهداً ولكنهم يتصفون بصفة المنافقين التي ذكرها الله تعالى في قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}[التوبة:67]، ومنه الكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وتبيين أحكام الله سبحانه، وينهون عن المعروف ومنه الأمر بالمعروف ونحوه، ويقبضون أيديهم ومنه قبضهم أيديهم عن الجهاد.(1/87)


[نتائج السكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
واعلم أن سكوت العلماء عن تبيين الحق، وعن النكير على العوام فيما يركبونه من المنكر قد تزلزلت به قواعد الدين؛ لأن سكوتهم تقرير لفعل القبيح وقولهم: إنه مع عدم التأثير يصير عبثاً مدفوع؛ لأنه سبب لتزلزل قواعد الدين كما ذكرته الآن؛ لأن العوام يعتقدون أن العلماء قد قرروهم على ما فعلوا، وأنه لو لم يكن جائزاً لعرَّفوهم به، كما صاروا يردون علينا في زماننا بذلك، ومدفوع أيضاً بأدلة وجوب تبيين الحق على ما تقدَّم مفصلاً، وأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها لم تفصّل، وبقوله تعالى: قالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ...} الآية إلى قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ}[الأعراف:164]، وهم من ذريات الأنبياء وإخوانهم، وقد قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولو حبواً)).
وقول علي عليه السلام: (لا يفسد الجهاد والحج جور جائر، كما لا يفسد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غلبة أهل الفساد) فكيف يكون مع عدم ظن التأثير عبثاً؟!(1/88)


وأعظم من ذلك أن بعض من هو قدوة في زماننا هذا قد صار جسراً يعبر عليه الباطنية الصوفية، ويتوصل به إلى طمس دين الإسلام، وذلك أنه اتخذ حبالهم التي يصيدون بها الجهلة الأغمار من الاجتماع على الموالد والتهاليل على الصفة التي تصنعها الباطنية ديناً، فقوى بذلك مكايدهم، وفتّت بذلك أعضاد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فضلّ وأضلّ بجهله وعدم تمييزه؛ لأن الباطنية يقولون: قد صنع القدوة في الدين كما نصنع، وما ذاك إلا أنه دين وقربة، فيجيبهم الجهَّال والعوام، ويتوصلون به إلى الفساد، وسلخ العوام عن الإسلام إلى الكفر، وإظهار مذاهبهم القبيحة من اللهو واللعب وغير ذلك، وكل طاعة تؤدي إلى مفسدة تنقلب قبيحة.(1/89)


ألا ترى أن عمارة المساجد من القرب المقرّبة إلى الله تعالى، وأن مسجد الضرار الذي حكاه الله سبحانه في كتابه لما كان اتخاذه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله كان معصية بنص الكتاب! وكذلك قول المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله: {رَاعِنَا}، أي: امهلنا لنتعرف ما تملي علينا من العلم، هو في الأصل قربة لما كان طلباً لسبب فهم العلم، فصار معصيةً لما كان ذريعة لليهود إلى سب رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك أن لفظ: (راعنا) كانت كلمة سب عند اليهود، فكانوا يسبونه بها جهاراً، فنهاهم الله عن ذلك، فأمرهم أن يقولوا بما يؤدي معناه، وهو قوله تعالى: {وَقُولُوا انظُرْنَا}[البقرة:104]، وكذلك لا شك أن سب الأصنام، ونحوها مما يدعى من دون الله حسن في العقل والشرع، وقد يصير واجباً إذا كان يؤدي إلى التنفير عنها من حيث أنه يكون من باب النهي عن المنكر، وقد يكون حراماً إذا كان يؤدي إلى منكر، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، يؤيد ذلك قوله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3] [يعني] الخالص من كل شائبة للفساد ومن الرياء.
والصوفية إنما يفعلون ذلك رياءً وتوصلاً إلى فسادهم وإطفاء الدين؛ إذ لو علموا أن بضاعتهم تقبل من دون ذلك لما فعلوه.(1/90)


وقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام: ((إذا هممت بأمرٍ فتدبر عاقبته، فإن يك خيراً فاتبعه، وإن يك غياً فدعه))، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) وأحمد بن سليمان عليه السلام في (حقائق المعرفة)، وفيه زيادة تركتها اختصاراً.
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لرجل: ((إذا أنت هممت بأمرٍ فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فامضه، وإن يك غياً فانته عنه)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) وفيه زيادة تركتها اختصاراً أيضاً، وهذان الخبران نصٌ في وجوب الانتهاء عن أي أمرٍ كان من طاعة أو مباح إذا كانت عاقبته غياً.
وبلغنا عن علي عليه السلام أنه قال: (إذا أخلّت النوافل بالفرائض فارفضوها)، وهذا مُخلٌ بالدين فكيف لا يرفض!.
وذكر العلماء وجوب قتل المؤمن المترس به إذا خشي على الإسلام لو ترك وهو في الأصل من الكبائر، فكيف لا يجوز ترك ما توصل به إلى المحظور مما صورته صورة الطاعة من المحظور!
وأوجب علماؤنا [رحمهم الله تعالى] هدم الصوامع المحدثة، وهي في الأصل من الطاعات إذا كانت يتوصل بها إلى الإطلاع على المحارم، فكيف لا يجب رفض ما يتوصل به إلى رفض الدين وارتكاب المحارم؟! وذكروا -رحمهم الله تعالى- أن العقل قاضٍ بأن لا مصلحة مع مفسدة مثلها.(1/91)

18 / 85
ع
En
A+
A-