والحجة لنا عليهم أنه قد ثبت كفرهم بالدليل المتقدم ذكره، والمعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله أن حكم دار الكافرين إذا كانت لهم فيها الشوكة، الإباحة من غير تفصيل بين الملل الكفرية، ولا تخصيص، فلو كان ذلك صحيحاً لورد مفصلاً؛ لأن الله سبحانه لم يترك ذلك هملاً ولا نسياناً ولا جهلاً، -تعالى الله عن ذلك- وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...}[المائدة:3]الآية، ولأنهم مندرجون تحت آية السيف، وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[الأنفال:39]، ونحوها فما أوجبته من الحكم ثبت لهم، وإلا كان تخصيصاً من غير تخصيص وهو باطل.(1/77)
وقال الإمام أبو عبدالله الداعي، والإمام الناطق بالحق أبو طالب، وقاضي القضاة في رواية وأكثر المعتزلة ومن وافقهم: أن حكمهم حكم المرتدين لا يجوز سبي ذراريهم،ولا أخذ أموالهم، وتكون لورثتهم من المسلمين إن لم يكن لهم شوكة ودار ومنعة، فإن كان لهم ذلك، فحكمهم حكم أهل الحرب تحل دماؤهم وأموالهم، ويجوز غزوهم لغير إمام، واحتجوا على أن حكمهم حكم أهل الردة بأن قالوا: إن إظهارهم للشهادتين إسلام واعتقادهم لذلك ردة، وذلك باطل؛ لأن الإسلام لا يكون إلا مع مطابقة القلب اللسان، لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8]، وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}[المائدة:41]، ولما روي أن قوماً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن أشياء فلما أخبر بها قبَّلوا يده، وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: ((فما يمنعكم أن تتبعوني))؟ قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، ونحن نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود، فلم يدخلوا بذلك في الإسلام، ولا أجرى عليهم النبي صلى الله عليه وآله حكم المرتدين، ونحن نعلم من حال المجبرة والمشبهة، ومن ظاهرهم أنهم حال تكلمهم بالشهادتين غير مقلعين عن عقائدهم التي خرجوا بها عن الإسلام، ولو قيل لهم: إنكم عند نطقكم بالشهادتين كنتم خارجين عن عقائدكم لأنكروا أشد الإنكار، فكيف يكون حكمهم حكم المرتدين؟! وقد تقضت العصور ونسلت القرون وهم على ذلك!(1/78)
فإن قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)).
قلت وبالله التوفيق: هذا حجة لنا؛ لأنَّا لم نعتمد بحمد الله إلا على الظاهر الذي يعلنونه، ولا يكتمونه من نسبة القبائح إلى الله، وتشبيهه بخلقه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-ً.
وقال بعض الناس: إن دار أهل الردة، وما ضاهاها لا تكون دار حربٍ إلا إذا كانت متاخمة لدار الحرب، ولم أعثر له على حجة حال تحرير هذا الجواب، وهو باطل؛ لأن الأدلة لم تُفصّل؛ ولأن العلة إنما هو ظهور الكفر، وتغلُّب أهله كما تقدَّم فالفرق يحكم؛ ولأن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وآله أنه لم يعتبر في دار الحرب ذلك، وإنما كان يجري حكم دار الحرب على ما كان منقطعاً من دور الكفار عن غيره، كالمتصل بغيره من دور أهل الحرب.(1/79)
[حكم مخالطة العدلية في ديارهم]
فإن قيل: فما تقول في الذين يخالطون العدلية في ديارهم التي الشوكة لأهل العدل فيها؟
قلت وبالله التوفيق: من كان دخوله فيها بأمان من أحد من العدلية إلى مدة مضروبة فهو آمنٌ وإلا فلا؛ لأن العهد لم يرد مطلقاً إلا لأهل الذمة، وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[الأنفال:39]، وهذه الآية عامة لم يخرج منها إلا أهل الذمة، ومن عقد له عهد إلى وقت مضروب بما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله، وهذا هو الظاهر من مذهب أسلافنا ".
وروي عن قاضي القضاة أنه سئل عن دَيْنٍ لمجبر على عدلي، هل يجب قضاء ذلك الدين؟
فقال: لا يجب، ومثل ذلك حكي عن الشيخ عبدالصمد الجيلي، وكان -رحمه الله- حجة عصره في العلم [والزهد] المرجوع إليه.(1/80)
[وجوب تعريف الناس بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
فإن قيل: إنك ذكرت أنه لا يكون حكمهم حكم أهل الحرب إلا بعد تعريفهم بالحق، وتعريفهم بالحق ربما تضمن التصريح بأنهم كفار، ومن يطق ذلك إذا كانت لهم الشوكة في الدار؟
قلت وبالله التوفيق: أما أهل الجبر والتشبيه و[أهل] الإرجاء الأكبر الذين يحكمون بنجاة أهل الفسوق والمنكر، فقد كفينا مؤونة تعريفهم بما ظهر لهم، واشتهر من تعريف أهل العدل لهم في كل عصر من الأعصار، ورسموه في كتبهم ليردوه بالأباطيل، وكذلك الباطنية فإنهم عارفون بالدين، دليل ذلك إظهار الإسلام وإبطانهم للكفر، وأما من عداهم فإن الواجب على أهل العدل تعريفهم، وإزاحة الشبهة التي يتعلقون بها بالأدلة القاطعة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:159]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نارٍ)) ويجب تعريفهم ولو ظن أنهم لا يمتثلون؛ لأن الآية والخبر لم يفصلا؛ ولأن الله سبحانه قد أوجب على رسله تبليغ أحكامه وإن علموا أنها لا تقبل منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6]، فقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على الله حُجَّةٌ بَعْدَ(1/81)