تتخذوا قبري وثناً)) أي لا تجعلوا له ما يُجعل للأوثان، ومنه الذبح [قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ على النُّصُبِ}[المائدة:3]، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله ((أنه نهى عن الذبح] على المقابر))، وقال: ((إنه فعال جاهلي)).
ومن ذلك اعتقاد صدق الكهانة والإيمان بالسحر؛ لأن اعتقاد صدق الكهانة ردٌّ لقوله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النمل:65]، ولأن الله سبحانه يقول في السحر: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ على الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البقرة:102]، ومن السحر التقذية، بدليل أن المقذي لا يستطيع أن يخرج بتقذيته ما كان مشاهداً في مكان ضيق أو بعيد، ومن أراد أن يتحقق صحة ما قلته فليدفن إبرة ولا يخبره بها؛ فإنه لا يستطيع أن يخرجها، أو يسرط برة من بِر ولا يخبره بها ثم يقول: سرطت شيئاً لا تدري ما هو أخرجه لي! فإنه يسحر أعين الحاضرين بغيرها من نحو حصاة أو ذباب! وقد امتحنت أنا مقذياً كذلك، أخفيت له في أذني حصاة ولم أخبره بها، فأخرج في عطيته كقطعة من شعرة من عرق حمار، وقال: أدخلت أذنك مسواكاً وهذه شعرة منه قد تغيَّر لونها لطول المدة، فعلمت كذبه وتمويهه، وأخبرته أنه ساحر.(1/72)


ومن ذلك مساواة الأنبياء، أو المشائخ بالله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- في شيء مما يختص به ككثير مما تقدم نحو تشريع شريعة، وكإغراق الفيل في الصفا أو في التعظيم أو في السجود أو غير ذلك؛ لأن الله سبحانه يقول: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، أي يجعلون له عديلاً ومثلاً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويقول سبحانه حاكياً عن الكفار: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:98].
ومن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله كما يفعله رؤساء القبائل في وقتنا هذا، وكذلك التزامه؛ لأن الله لم يشرع ذلك، ولقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]، وأشباه ذلك كثير.
فإن قيل: كيف يكون الناس كفاراً بذلك، وهم يشهدون الشهادتين ويقومون بالواجبات،وقد قال صلى الله عليه وآله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله،فإذا شهدوا بذلك،وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا،وأكلوا ذبيحتنا حُرّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها،لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين)).
قلت وبالله التوفيق: هذا نسيان لما تقدم من الأدلة القطعية، أو تناسٍ مع أنه قد قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}[طه:112]
وقال صلى الله عليه وآله: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً)).(1/73)


وقال صلى الله عليه وآله: ((بعثت بين جاهليتين، أخراهما أعظم من أولاهما)) ونحو ذلك كثير، فأرشد جميع ذلك إلى أن فعل الطاعة كلها لا يكون به المكلف مسلماً إلا إذا عرى عن خصلة من خصال الشرك، فتأمل جميع ذلك تعلم الحق.
فأما كون دارهم يصير بذلك دار حرب، ولو كان المؤمنون موجودين فيها فالذي يدل عليه أنهم أهل شوكة الدار والسيف والمنبر لهم، والمعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وعلى ذلك جرى إجماع المسلمين، وظهور الإسلام مع ذلك لا يخرج الدار عن حكم دار الحرب.(1/74)


دليل ذلك: مكة حرسها الله تعالى بالصالحين من عباده، كانت قبل الهجرة دار حرب وفيها رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون يظهرون دينهم ولا يكتمونه، ويتهددون الكفار في بعض الأحوال بالقول والفعل، كما فعل حمزة -أسد الله- في رأس الكفر أبي جهل -لعنه الله- شجّه بالقوس في نادي بني مخزوم، ولم يقدروا أن يغيروا عليه، وكذلك سعد بن أبي وقاص ضرب مشركاً فيها بلحي جمل ميت فشجّه شجة، وهو أول من أسال دم الكفار في دعوة النبي صلى الله عليه وآله، فلم يخرجها ذلك عن أن تكون دار حرب، وكذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله، كان يسلم الجماعة فيها، ويظهرون إسلامهم، فلم تخرج بذلك عن حكم أهل الحرب، وهذا هو قول القاسمية والناصرية لا خلاف بينهم فيه، وهو قول محققي المعتزلة ومحصلي العدلية فيما سبق من الأعصار، حكى معنى ذلك محمد بن أسعد المرادي -رحمه الله تعالى-، وبعض العلماء، وخالف في ذلك جماعة من العلماء، فالمؤيد بالله عليه السلام في قديم قوليه، والشيخ الفضل بن شروين، ومحمد بن المسيب توقفوا في تكفير المجبرة والمشبهة، والحجة عليهم ما تقدم على أن المتوقف شاكِ، والشاك لا مذهب له فيناظر عليه.(1/75)


وروي عن الإمام يحيى عليه السلام الجزم بعدم تكفيرهم، وما تقدّم يحجُّه، وأيضاً حكى بعض الأئمة الأعلام إجماع العترة على تكفيرهم، وهو صحيح؛ لأنه لم يظهر بينهم فيما مضى [في ذلك] اختلاف، والمؤيد بالله قد رُوي رجوعه، وحُكي أنه كان لا يجزم أن يكفِّرهم بالقياس، حتى تنبَّه للدليل على تكفيرهم من الكتاب العزيز، واحتج على تكفيرهم بآية من الثلاث الآيات التي تقدم ذكرها، وعليها اعتمد المتأخرون من أهل البيت "، ذكر معنى ذلك الديلمي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب (قواعد عقائد أهل البيت ").
وقال أبو القاسم البلخي في رواية ومن وافقه: إن حكمهم حكم أهل الذمة، وذلك هو المحكي عن أبي الحسن الكرخي.
قال أبو القاسم في هذه الرواية: لأن كفرهم من جهة التأويل وذلك باطل؛ لأن أهل الذمة لم يثبت لهم حكمهم المعروف إلا بعهد، وذلك معلوم من الدين ضرورة، وهؤلاء لم يعقد لهم عهد البتة، ومن يستطيع أن يعقد لهم عهداً وهم أهل السيف والدولة، والقهر، والغلبة، واحتجاجه بأن كفرهم من جملة التأويل ضعيف مردود؛ لاحتياجه إلى إثبات دليل يوجب كون كفر التأويل موجباً لحكم أهل الذمة؛ لأنه محل النزاع.(1/76)

15 / 85
ع
En
A+
A-