قلت وبالله التوفيق: إنه إن كان لم يسأل عن أمر دينه فكذلك نقول، وإن كان يسأل فلا نسلم؛ لأن الله سبحانه قد جعل طريق من كان كذلك السؤال حيث قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43] وفي آية أخرى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43،44].
فإن قيل: فإن المقلد كالسائل فلا يلزم ضلال كل الأمة؛ لأن الأعصار وإن خلت من المجتهدين لم تخل من المقلدين.
قلت وبالله التوفيق: إن سلَّمنا ذلك فقد ذكرنا فيما تقدَّم أن المجتهدين لم يستغرقوا جميع الأحكام في مصنفاتهم، فيلزم الجهل فيما سوى ذلك، وإلا فمقلدوا آحاد العلماء مع الاختلاف على خلاف ذلك، كما سيأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى- في أثناء الجواب.(1/62)
[حكم المعاملات في الدولة الجائرة]
قال السائل: ما يقال في النقدين، والفلوس في النواحي التي غلبت عليها يد الدولة الجائرة، وأخذت من أهلها الأموال كرهاً مع كون الضربة منسوبة إليهم، ولا توجد من غيرهم، وإطباق الناس على المعاملة بها، وعدم التحري فيما أخذته الدولة المذكورة؟ وما حكم المعاملة بها مع ذلك؟
فالجواب والله الموفق والمستعان: إن الدولة إذا كانت تقول بالجبر والتشبيه، أو تذهب إلى مقالة الباطنية، أو تزعم أن لا عقاب على عصاة هذه الأمة، أو ترد نصوص الكتاب والسنة المعلومة، إذا خالفت قواعد أهل مذهبهم، فالدار دار حرب، من استولى على شيء من ذلك أو غيره وغلب عليه مَلِكَهُ، ولو كان المؤمنون موجودين.(1/63)
[حكم المجبرة والمشبهة]
والدليل على ذلك: أما كون الجبر والتشبيه كفراً؛ فلأنهما من صفات المناقص، ومن وصف الله بصفات المناقص فقد كفر، ألا ترى أن عبداً لأمير مثلاً لو فعل فعلاً قبيحاً مسترذلاً عند العقلاء مما يستنقصون به فاعله ثم تَبَرَّأ من ذلك، ونسبه إلى سيده الأمير أو شبه سيده بنفسه أو بغيره من سائر العبيد في أمرٍ يختص العبيد، ولا يكون لأحد من الأحرار، أليس قد انتقص سيده بذلك؟ !وصغَّره وحقَّره! والجبر والتشبيه من ذلك إلا أن بين الأمرين تفاوتاً عظيماً؛ لأنهما استنقاص بإله العالمين -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -، والمعلوم من الدين ضرورة أن من استنقص بإله العالمين فهو كافر، وأي كفر يكون أعظم من كفر من يبرئ عبدة العجل والأوثان! ويقول: إنما فعل ذلك الرحمن -تعالى عنه علواً كبيراً-، وكفر من لا يعرف الله البتة ويعبد جسماً غيره.
ومن الدليل على كفرهم من الكتاب قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}[العنكبوت:68]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ على الله وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}[الزمر:32].(1/64)
ووجه الاحتجاج بالآيتين [المذكورتين]: أن الله سبحانه سمّى من كذب عليه، أو كذب بالحق والصدق في آخرهما كافرين، والمجبرة قد افترت على الله الكذب حيث زعمت أن الله سبحانه فعل المعاصي، وكذّبت بالصدق، وهو قوله تعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت:46] وهم يقولون: بلى هو فاعل الظلم كله! -تعالى الله عن ذلك-، وكذّبت بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المائدة:73]، حيث قالت: إنه لا فعل لهم من القول وغيره، والمشبِّهة قد افترت على الله الكذب حيث قالت: إن الله أمرهم بعبادة جثة طويلة عريضة عميقة، وأنها هي ربهم -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وكذّبت بالصدق والحق، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11].
ومما يدل على كفر الطائفتين قوله تعالى: {قُل إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ على الله الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس:69،70]، ووجه الاحتجاج بهذه الآية تضمنه ما مر آنفاً.(1/65)
[من هم الباطنية]
وأما الباطنية: فإنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولا يتقلدون بشيء من الشرائع، والآيات الثلاث تشملهم لتكذيبهم بالحق والصدق، وكذلك من والاهم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]، لعدم الفرق بينهم وبين من نزلت الآية بسببهم، ولقوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] ومن لم يكن من الله في شيء فهو كافر قطعاً، وإلا فقد كان من الله في شيء وهو ثبوت الإسلام له، وذلك مصادم للآية، ألا ترى أن الله يقول: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ على شَيْءٍ...}[المائدة:68] الآية إلى آخرها، وأن معناها أنهم كفار حتى يقيموا التوراة والإنجيل، أي يعملوا بما فيهما من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، والتزام ما جاء به عن الله سبحانه، وكذلك هذا.(1/66)