تعالى مقالة فرعون لموسى، فقال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52]، وحكى عن الذين كفروا بنبينا صلى الله عليه وآله، فقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ على رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أو مَجْنُونٌ}[الذاريات:52]، ومن طالع السير علم استهزاء قريش برسول الله صلى الله عليه وآله وبالمؤمنين واستحقارهم إياهم حتى أعزّ الله الإسلام.
وقال [علي] عليه السلام في خطبته القاصعة: (فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران، ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون، وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصي، فشرطا له -إن أسلم- بقاء ملكه ودوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين! يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب! إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه). انتهى.(1/57)
وكذلك إنما ضلَّ من ضلَّ من فرق هذه الأمة لعدم الاعتراف بفضل أهل الحق من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، الذين شهد لهم صرائح الكتاب، والسنة المعلومة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((ما بال أقوام من أمتي إذا ذُكر عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهلّلت وجوههم، فإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن الرجل منهم لقي الله بعمل سبعين نبياً، ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قَبِلَ الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً)).
وقد قدمت طرفاً من قدحهم في مذهب العترة ".(1/58)
[قول بعض الفقهاء بعدم جواز الاجتهاد والرد عليهم]
وقال ابن الصلاح: يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهبهم قد انتشرت وعلم تقييد مطلقها، وتخصيص عامها، وشرط فروعها بخلاف مذهب غيرهم.
وقد روي عن بعض فقهاء مكة أنه أشار بيده إلى البيت الشريف، وقال: ورب هذا البيت -ثلاثاً- لو رأينا زيدياً لضربنا عنقه، فإذا جحد فضل الأنبياء وهم أمناء الله سبحانه، وفضل عترة رسول الله صلى الله عليه وعليهم، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، وقال فيهم: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23]، وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، فبطريق الأولى أن يجحد فضل من سواهم من أفراد العلماء الأخيار كما قد سبق لهم [في ذلك] أسلاف كالرافعي، والنواوي، وابن الصلاح، فإنهم استبعدوا وقوع الاجتهاد في الأعصار المتأخرة.(1/59)
قال ابن العراف: قال أئمة الدين وأرباب الورع كالرافعي وغيره: الناس في هذا الوقت مجمعون على أنه لا مجتهد مستقل، وعزيز وجود المجتهد المقلد، -يعني به مجتهد المذهب-، وهو المخرِّج على مذهب إمامه، وما أبعد ما قالوا؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}[النحل:43،44]، وهذا خطاب عام للمكلفين في كل عصر من الأعصار؛ لقوله تعالى: {لأِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19]، وهذا دليل واضح على أنه لا بد من مجتهد في كل عصر؛ لأن المصنفين ممن مضى لم يستغرقوا كل الأحكام في مصنفاتهم، لو قيل: إن أتباعهم هم أهل العلم بالبينات والزبر، مع أن ذلك في غاية السقوط والبطلان؛ لأن المقلد غير عالم بما قلد فيه وإنما معه ظن فقط، فلمّا لم يكونوا مستغرقين لجميع الأحكام في مصنفاتهم وجب أن يكون ممن يتمكن من معرفة ما عدا ذلك، ليجيب السائلين الذين أمرهم الله بسؤال أهل الذكر وإلا اختل معنى الآية وفائدتها، وقولهم بالاختلال أحق وأولى؛ لأنها من جملة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولأنها قول الله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وقد تواتر من السنة ما يدل على أنه لا تخلو الأعصار من المجتهدين، قال صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم...)) الخبر إلى قوله: ((لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ونحو ذلك كثير.(1/60)
وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في كلامه لكميل بن زياد: (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، أو خاملاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا! وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عدداً، والأعظمون قدراً، يحفظ الله حججه وبيناته بهم حتى يودعها نظراءهم...) إلى آخر كلامه عليه السلام.
وذهب أئمة العترة "، والمعتزلة وغيرهم إلى مثل ما ذكرته، إلا الإمام يحيى [بن حمزة] عليه السلام فإنه قال: (يجوز خلو الزمان من المجتهد)، وإلى مثل قوله ذهب الأشاعرة وأكثر الفقهاء، وهم محجوجون بما تقدم ونحوه من الحجج، ولأن ذلك يؤدي إلى تزلزل قواعد الدين، وإلى إجماع الأمة في ذلك العصر على الجهل بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله، وأدلة ثبوت الإجماع تمنع من ذلك؛ لأن الجهل بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ضلالٌ، بدليل قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}[الضحى:7]، أي جاهلاً لشرائع الله سبحانه، وقوله تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِينَ}[الشعراء:20] أي من الجاهلين للشرائع، وقد قال صلى الله عليه وآله: ((لن تجتمع أمتي على ضلالة))، وقال صلى الله عليه وآله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين))، ونحو ذلك حتى تواتر معنى وأفاد العلم قطعاً.
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن كل من لم يكن مجتهداً فهو ضال!(1/61)