[حكم خبر الواحد يثمر العلم مع القرينة]
وأما كون خبر الواحد يثمر العلم مع القرينة:
فقال المؤيد بالله، والمنصور بالله في رواية، والإمام يحيى، والإمام محمد بن المطهر، والسيد محمد بن جعفر وغيرهم من أهل مذهبنا: (إن خبر الواحد يفيد العلم إذا كان مع القرينة)، وهو بحمد الله عندي كذلك، وقد وقع بالتجربة عند كثير من العقلاء.
وقال الإمام المهدي عليه السلام وغيره: (إنه يفيد العلم إذا وقع بحضرة خلق كثير لا حامل لهم على السكوت لو علموا كذبه، وإذا كان يفيد العلم مع القرينة أو يحضره الخلق الكثير، فكيف لا يفيد العلم مع قرينة موافقته للكتاب العزيز، ومع تقرير النبي صلى الله عليه وآله له فيما تواتر من قوله صلى الله عليه وآله في الخبر المتقدم ذكره ((فما وافقه فهو مني وأنا قلته)) وكذلك القياس قد احتج به القاسم، والهادي عليهما السلام في التكفير والتفسيق كما هو مشهور بين أصحابنا، وكذلك احتج به الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في مسألة الشفاعة في كتاب (حقائق المعرفة)، فقال بعد أن أثبت الشفاعة للمحسنين ما لفظه: (ويؤيد ذلك ما روي عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها بخير صلّى عليها، وإن أثني عليها بغير ذلك قال: ((شأنكم بها)) ولم يصل عليها، فلو كان يشفع في الآخرة لأهل الكبائر لجاز أن يصلي عليهم ويدعو لهم في الدنيا.(1/52)
وهذه المسائل الثلاث من المسائل العلمية بالاتفاق، فإذا كان ما ذهبنا إليه مفيداً للعلم بالحجج القاطعة، فلا استبعاد في موافقته لأهل الحق من العترة الطاهرة، وإنما الاستبعاد في قول من يوجب العمل بما ظنَّ صدقه من أخبار كفار التأويل وفساقه، ولا يوجب عرضاً على كتاب الله سبحانه البتة، ولا أخذاً بالمجمع عليه من الأخبار مع التناقض[الظاهر]، وذلك أنهم يقولون: إن دليل الأخذ به قطعي، ثم يقولون: ولا يفيد في الاستدلال به إلا الظنّ، وتناقض ذلك في غاية الظهور؛ لأنه لو كان دليل الأخذ به قطعياً لكان الاستدلال به قطعياً؛ لأن ما دلّ على صدقه الدليل القطعي فهو صحيح قطعاً، وكيف يكون الدليل على صحة خبر الجبري قطعياً، ونحن لا نأمن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله كما قد كذب على الله تعالى في نسبة القبائح إليه -تعالى عن ذلك-، وهو يعتقد أيضاً أن كذبه على رسول الله صلى الله عليه وآله ليس منه، وإنما هو من الله -تعالى الله عنه علواً كبيراً-.
فإن قيل: فَلِمَ قَبِل الصحابة خبر الواحد؟(1/53)
قلت وبالله التوفيق: إن اجتمعوا كلهم على خبر ذلك الواحد فاجتماعهم هو القاضي بصحته إذ لا يجتمعون على ضلالة، ولم يجتمعوا إلا بعد أن حصل للمعتمد عليه منهم العلم بصحته، إما بقرينة أو موافقة كتاب الله سبحانه وتعالى لأن الأدلة قاضية بوجوب العمل بالعلم في ذلك، كما مرَّ ذكره من نحو قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، ونحو قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، ولا شك أنهم أعلم بذلك منا، وإن كان بعضهم قَبِلَهُ بغير قرينة توصل إلى العلم فلا حجة فيه علينا.
فإن قيل: إن ذلك يلزم منه الدور، وذلك أنه لا يكون حقاً حتى يجمعوا عليه ولا يجمعوا عليه حتى يكون حقاً، وإلا لم يجمعوا عليه إذ لا يجتمعون على ضلالة!
قلت وبالله التوفيق: لا نُسلم لزوم الدور؛ لأنهم قد علموه حقاً بالقرينة كما مرت الحجة على ذلك؛ ولأن الإجماع إنما هو مبيِّن لما قد كان حقاً، لا أنه لم يكن حقاً إلا بعد أن حصل الإجماع على قبوله، ألا ترى أن كل ما أجمع عليه قد كان حقاً عند نزول الوحي به؟! وقبل أن يجمع عليه فكذلك هذا.
وأما طلب السائل لإزالة ما يرد على أجوبة مسائله.(1/54)
فالجواب والله الموفق: أنه إن أراد إزالة ما يرد تقديراً، فسأورد -إن شاء الله تعالى- من ذلك ما يحسن إيراده حسب الإمكان، واتساع الأوقات وضيقها، وفراغ الخاطر وشغله دون الاستقصاء، ولعله يوجد في أثناء جوابي هذا -إن شاء الله تعالى- بمنه ولطفه ما يغني في إزالة كثير مما يقدّر وروده مما عسى أني لا أذكره والله الموفق والهادي، ومن عرف الحق لم يَخْفَ عليه الباطل، ومن لم ينتفع ببيّن الحق ونيّره وإن قلَّ، لم ينفعه ما زيد عليه وإن كثر، وإن أراد بذلك ما قد أورده في أثناء مسائله فسنقف عليه إن شاء الله تعالى مفصلاً.
وأما طلبه لذكر أقوال المخالفين وحجة كل قائل:
فالجواب والله الموفق: أني لا أبخل بما ظفرت به من ذلك عند تحرير الجواب، وما لم أظفر به ولا أتذكره فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولو توقف الجواب على استقصاء ذلك لتعذر وجوده لا سيما على من حاله مثل حالي، ولعله يجد عند غيري من بقية العلماء الأخيار من ذلك ما يُحب؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76].
وأما قوله: حتى يتميز الوجه الصحيح من الفاسد لا على وجه التقليد:
فالجواب والله الموفق: أني لا آلو في ذلك جهداً ولا صمداً للحق ما استطعت، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88]، لكن كثيراً من أهل الزمان، أو الأكثر يستبعدون وجود المجتهد المقررِّ لشيء من الأحكام، لا على وجه التقليد، ولقد جزم السائل بما استعظمه بعضهم، حتى كاد يصير من ادَّعى الاجتهاد عنده كمدّعي النبوة.(1/55)
قال بعض العلماء ما لفظه: ولقد عظمت المحنة على من اجتهد وترك التقليد من علماء المتأخرين في كل عصرٍ من الأعصار ومصرٍ من الأمصار، كما يعرف ذلك من طالع كتب التواريخ والأخبار، ومات كثير من الأخيار بسبب ذلك في الحبوس، وطرد كثير منهم من الأمصار.
قلت وبالله التوفيق: وبسبب ذلك أنهم لا يعرفون الفضل لأهله فيستعظمون دعوى الاجتهاد ممن اقتحمته عيونهم، وحقرته نفوسهم، وبمثل ذلك ضلَّ أكثر الناس اقتداءً بإمامهم إبليس لعنه الله؛ لأنه استحقر آدم فعصى ربه بترك السجود له فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص:76]، فكانت عليه اللعنة إلى يوم الدين، وكذلك استحقرت الأمم الضالة أنبياء الله المرسلين إليهم، فلم يعترفوا بفضلهم فضلُّوا، قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:10]، وقد حكى الله عن قوم نوح ما قالوا له فقال تعالى: {فَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا...} إلى قوله تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ...}[هود:27] الآية، وحكى عن قوم هود ما قالوا له، فقال تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ...}[هود:54]الآية، وحكى عن قوم شعيب ما قالوا له، فقال تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:91] وحكى(1/56)