قلت وبالله التوفيق: وجميع كلامه عليه السلام يقضي بفساد ما تُتُبع فيه الظن في كل قضّية فليتأمله الناظر.
وقال عليه السلام: (وإن أحب الخلائق إلى الله عبد أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، وأضمر اليقين، وزهرت مصابيح الهدى في قلبه، فسهل على نفسه الشديد، وقرب عليها البعيد، فلم يدع مبهمة إلا كشف غطاها، ولا مظلمة إلا قصد جلاها، ولا معظلة إلا بلغ مداها، معاين طريقته، مشاهد من كل أمر حقيقته، شرب نهلاً، وسلك طريقاً سهلاً، يحط حيث حطَّ القرآن رَحْلَهُ، وأين نزل كان منزله، فهو من خواص أولياء الله.(1/47)


وإن أبغض خلق الله إلى الله عبد وكّله الله إلى نفسه، جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، فهو فتنة لمن افتتن به بعبادته، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به، حّمال خطايا غيره، رهن بخطيئته، قمش جهلاً من الجهال فأوطأ الناس عشوة، عاد بأوباش الفتنة، قد لهج بالصلاة والصوم فسماه أشباهه من الناس عالماً، ولم يَعْنِ في العلم يوماً سالماً، بكّر فاستكثر، وما قلَّ منه خير ممّا كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، قعد حاكماً بين الناس، ضامناً لتخليص ما اشتبه عليهم، إن نزلت به إحدى المهمات، هيَّأ لها حشواً من رأيه، فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت، إن أصاب وإن أخطأ لم يعلم؛ لأنه لا يعلم أصاب أم أخطأ، لا يحسب أن العلم في شيء مما ينكر، ولا أن من وراء ما بلغه غاية، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب بصره، وإن أظلم عليه أمر كتم ما يعلم من نفسه؛ لكيلا يقال: لا يعلم، ركّاب عشوات، وخائض غمرات، ومفتاح ظلمات، ومعتقد شبهات، لا يعتذر مما لا يعلم، ولا يعضُّ على العلم بضرس قاطع [فيسلم]، يذري الرواية ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بقضائه الفرج الحلال، لا مليٌّ بإصدار ما ورد عليه، ولا أهل لإصدار ما فرط منه)، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
قلت وبالله التوفيق: وهذا كالأول؛ لأنه عليه السلام قال: (ولم يغن في العلم يوماً سالما)، وقال: (إن أصاب أو أخطأ لم يعلم؛ لأنه لا يعلم أصاب أم أخطأ)، وقال: (ولا يعض على العلم بضرس قاطع).(1/48)


وروى زيد بن علي عليه السلام في (مجموعه) عن علي عليه السلام أنه قال: (لا يفتي الناس إلا من قرأ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وفقه السنة، وعلم الفرائض والمواريث).
وقال زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في دعائه المعروف (بالكامل): (اللهم، إني أعوذ بك من هيجان الحرص،...إلى أن قال: وأن نعضد ظالماً، أو نخذل ملهوفاً، أو نروم ما ليس لنا بحق، أو نقول في العلم بغير علم).
وقال الهادي عليه السلام في كتاب (الأحكام) ما لفظه: (يحتاج القاضي أن يكون عالماً بما قضى)، ولم يقل: أو ظاناً، وجميع ذلك يدل على أنهم لم يعتمدوا على الظن في شيء من العلم.(1/49)


[حكم العمل بالخبر الأحادي]
وأما قولهم بعدم جواز العمل بالخبر الأحادي ما لم يوافق الكتاب:
فقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في (مسائله) ما لفظه: (والرواية وإن اختلفت وكيفما وصفت لا تخلو من أوجه ثلاثة:
أحدها: أن تكون الرواية ممكنة غير مستنكرة في حكم رب العالمين، ولا فيما نزّله من الكتاب، هذه الرواية إذاً غير مبيّنة، ولا محققة إلا أن تقبل بغير اختلاف عن أهل الصدق والثقة، فتحمل وتقبل حينئذ فتستعمل.
والوجه الثاني من الرواية: فهو ما فسد الألباب والعقول، فما كان من الروايات كذلك فهو غير مقبول.
والوجه الثالث: فهو ما صدّقه الوحي والكتاب، وعرفته فلم تنكره العقول والألباب، فإذا كان ذلك كذلك قُبِلَ، وصُدِّق، وثبت، وحقق، ولم يسع ردّه، ورُدَّ ودُفِعَ ضده).
وقال عليه السلام في (الأصول الخمسة) ما لفظه: (وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان لها في القرآن ذكر ومعنى).
قال الهادي عليه السلام في كتاب (تفسير معاني السنة) ما لفظه: (وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يشهد له الكتاب، ولم يوجد فيه ذكرها مفصلاً، أو مجملاً مؤصلاً ثابتاً فليس هو من الله، وما لم يكن من الله لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله، وما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله، ويحكيه عن الله فهو ضد السنة لا منها، وما لم يكن منها لم يجز في دين الله أن ينسب إليها).(1/50)


وقال عليه السلام في باب اختلاف آل محمد من كتاب (الأحكام) ما لفظه: (فأما من كان منهم مقتبساً من آبائه أباً فأباً حتى ينتهي إلى الأصل، غير ناظر في قول غيرهم، ولا ملتفت إلى رأي سواهم، وكان مع ذلك مميزاً فَهِماً، حاملاً لما يأتيه على الكتاب، والسنة المجمع عليها، والعقل الذي ركّبه الله حجة فيه، وكان راجعاً في جميع أموره إلى الكتاب، وردِّ المتشابه منه إلى المحكم، فذلك لا يضل أبداً، ولا يخالف الحق أصلاً).
قال المحسن بن محمد بن المختار عليهم السلام: (لم يضع الهادي شيئاً في كتابه من نفسه، إنما صنّف ما أجمع عليه علماء أهل البيت " وغيرهم من علماء الإسلام؛ لأنه يسند إلى جميعهم، ويروي عن كلهم ما أخذوه عن نبيهم).
وقال الهادي عليه السلام في كتاب (الجملة) ما لفظه: (وأن من دينهم -يعني المسلمين- التثبت فيما غاب عنهم، حتى يجيئهم اليقين من تواتر الأخبار وتظاهرها)، ثم ساق كلاماً إلى أن قال ما لفظه: (وأنهم يعملون بالأخبار المجمع عليها، ويشكّون في القول الشاذ، وإن روي عنه صلى الله عليه وآله) وجميع ذلك يدلك على أنهم " لم يعتمدوا إلا على المتواتر، والمجمع عليه من السنة، أو ما وافق كتاب الله دون ما عدا ذلك.(1/51)

10 / 85
ع
En
A+
A-