وأما ما احتج به الحسن بن محمد في الآيات المنزلات آية النمل، وآية الأنعام، وآية حم السجدة، وما ذكر فيهن ذو الجلال والإكرام من قوله: ?زَيَّنَّا?، و?قَيَّضْنَا?، فإن ذلك من الله هو الإمهال، وترك المغافصة لهم بقطع الآجال، وما كان في ذلك منه لأهل الجهل من التبري منهم والخذل منه سبحانه لمن عشا عن ذكر ربه منهم. فلما أن أُمهلوا، وعلى ما هم عليه من الشرك والكفر تُركوا، وبالعقوبات لم يُعاجلوا، وأملى لهم ليرجعوا، فتمادوا، ولم ينيبوا، ورأوا من إمهال الله وتأخيره لهم، وصرف ما عاجل به غيرهم من القرون الماضية والأمم الخالية من ثمود وعاد وفرعون ذي الأوتاد، وقوم نوح، وقوم لوط، وأصحاب الرس، والأيكة، وقوم تبع، والمؤتفكة، وغير ذلك من القرون المهلكة؛ فزادهم تأخير ذلك عنهم - اجتراء وتكذيباً، ومجانة وافتراء وترتيباً بصرف ذلك عنهم - ما هم عليه من أعمالهم وفاحش قولهم وأفعالهم. فكان إملاء الله لهم، وتركهم ليرجعوا أو لتثبت الحجة عليهم، وتنقطع المعذرة إليهم، هو الذي أطعمهم وزين عملهم لهم فجاز أن يقول: ?زَيَّنَّا لَهُمْ?، إذ قد تفضلنا وأمهلنا وأحسنا في التأني بكم ورحمنا، وكذلك تقول العرب لعبيدها، يقول الرجل لمملوكه إذا تركه من العقوبة على ذنب من بعد ذنب، وتأنى به وعفا عنه وصفح ليرجع ويصلح فتمادى في العصيان، ولم يشكر من سيده الإحسان، فيقول له سيده: أنا زينت لك وأطمعتك فيما أنت فيه إذ تركتك وتأنيت بك، ولم آخذك ولم أعاجلك. فهذا على مجاز الكلام المعروف عند أهل الفصاحة والتمام.(1/488)
وأما الآية التي في حم السجدة، فكذلك، الله أوجد القرناء وخلقهم، ولم يجمع بينهم وبين من أطاعهم، ولم يأمرهم بطاعتهم، ولا اتباعهم، بل حضهم على مخالفتهم، وأخبر بعداوتهم، ونهاهم عن اتباع الهوى، فقال: ?وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا?[الكهف:28]، ?وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ?[القلم:10]، وقال فيمن يأمر ويوسوس بالسوء من الشياطين: ?إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا?[فاطر:6]، فبين كل ما افترض وأمر به، فلم يترك لذي علة قِبَلَهُ متعلقاً، فكان تقييضه لهم ما ذكر من القرناء هو تخليته لهم وتبرئه منهم، وترك الدفع لنوازل الأسواء عنهم، وذلك فيما تقدم عنهم من الكفر بربهم والشرك بخالقهم.
تم جواب مسألته
وبتمامها تم الجزء الأول؛ والحمد لله كثيراً، وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله الطيبين وسلامه، (وحسبنا الله وحده وكفى). ويتلوه الجزء الثاني من مسائل الحسن بن محمد بن الحنفية، في تثبيت الجبر والتشبيه، ورد الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليه السلام في نفي ذلك عن الله سبحانه، وإثبات العدل والتوحيد، وتصديق الوعد والوعيد.
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين)(1/489)
المسألة التاسعة عشرة: الفرق بين الجعل التشريعي والجعل التكويني
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ?... إلى آخر الآية، فقال: أخبرونا عن الجعل بالإرادة دون الأمر؛ فإن أنكروا، فأخبرهم أن الله يقول: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وإن تَدْعُهُمْ إلى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إذا أَبَدًا?[الكهف:57]، وقال سبحانه: ?عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?[الممتحنة]، وفي آيات كثيرة من الكتاب، فيقال لهم: ما ذلك الذي جعل الله، وهو كائن كما جعل؟ فإن قالوا: إنما ذلك الدعاء. فقلنا: إن الدعاء قبل ذلك، فقد دعا العباد جميعاً، وهذا شيء قد خص به من يشاء من خلقه، ولم يعمهم؛ لأنه إنما يهتدي من جعل الله في قلبه الهدى ولم يعمهم بالهدى. فإن قالوا: قد نعلم أن الله قد جعل الناس كلهم مهتدين، ولا نقول إن الله قد جعلهم كفاراً. فقل: إن الله يرد عليكم قولكم في كتابه، فإنه قد قال: ?قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ?[المائدة:60]، ألا ترى أن الله قد جعل منهم القردة والخنازير؟ فإن زعموا أن الله إنما سماهم بذلك ونسبهم إليه، وإن أقروا أن الله جعلهم عبدة الطاغوت؛ فذلك نقض قولهم. وإن قالوا: إن الله لم يجعلهم عبدة الطاغوت؛ كان ذلك تكذيباً منهم، فقل: فإن الله قد قال أيضاً:(1/490)
?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ?[الأنعام:123]، ألا يرون أن الله يخبر أنه قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها؟ فإن قالوا: إنه لم يجعلهم فيها ليمكروا فيها؛ كان ذلك تكذيباً منهم، وإن أقروا كان ذلك نقضاً لقولهم.
وقد قال الله لقوم فرعون: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ?[القصص:41]، فإن قالوا: نعم؛ كان ذلك نقضاً لقولهم، وإن قالوا: لا؛ فقد كذبوا، والله يقول: ?وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ?[النحل:80-81]، ألا ترى أن الناس هم غزلوا ونسجوا، وعملوا الدروع واتخذوا المساكن والبيوت، ثم نسب ذلك منه وإليه، وأخبر أنه خلقه، فمنَّ به عليهم، وذلك أنه أراده، فكان ما أراده ولم يأمر به.
تمت مسألته
[جوابها:](1/491)
وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل: ?إنا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وإن تَدْعُهُمْ إلى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إذا أَبَدًا?، فتوهم وظن، فقال: إن الله جعل على قلوبهم أكنة حتى لا يفقهوه، وفي آذانهم وقراً، وأن ذلك من الله فعل بهم ليشقيهم؛ وليس ذلك - لعمره - كذلك، ولو كان الله عز وجل الذي حجب قلوبهم وآذانهم عن ذلك لم يبعث الرسل إليهم، ولم يحتج ببرهانه عليهم، وكانوا عنده في تركهم لذلك معذورين، وكانوا على ذلك مثابين، إذ هم لما أرسل إليهم به غير مستطيعين، وقد قال الله سبحانه: ?لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا?[البقرة:233]، وقال: ?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا?[الطلاق:7]، فكيف يكلفهم الائتمار وقد حجب قلوبهم عن الاعتبار؟ فتبارك الله العزيز الجبار.(1/492)