وأما ما قال، وعنه بجهالته سأل، من قول الله تبارك وتعالى: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ?، فقال: إن ذلك عنده من الله إذنٌ للكافرين فيما نالوه من الرسول والمؤمنين في يوم أحدٌ من القتل، وما نالوا به حمزة رحمه الله من المثل، وما نالوا به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الجراح، وما اجترؤا على الله فيه وعليه من هشم وجنته وكسر رباعيته؛ فكيف يتوهم من كان له عقل وفهم يبين به عن الجهل أن الله أذن لأعدائه في فعل ذلك بأوليائه؟ كذب من ظن ذلك وقال على الله بهتاناً وزوراً، وكانوا عنده سبحانه قوماً بوراً، وكيف يأذن للفاسقين في القتل والسواية إلى المؤمنين وهم الخيرة عنده من عباده أجمعين، بل الإذن منه للمؤمنين في قتل المشركين وقتالهم حتى يسلموا أو يفيئوا عن جهلهم وضلالهم، ألا تسمع كيف يقول سبحانه للمؤمنين: ?فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا?[محمد:4]، ويقول: ?قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً?[التوبة:123]، ويقول سبحانه: ?فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ?[التوبة:5]، ففي كل ذلك يأمر المهتدين بقتال الضالين المضلين وبقتل المحادين المشركين. فهل سمع الحسن بن محمد بشيء من كتاب الله سبحانه وأمره وإذنه للمؤمنين؟ وزجره أمراً منه للكافرين بقتال المؤمنين أو حضاً لهم على المسلمين؟ بل في كل كتابه يأمر بقتال الكافرين ويحض على محاربة الفاسقين، ومن ذلك قوله: ?قَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً?[التوبة:36]، وقال ترغيباً في قتال الناكثين، (وتفضيلاً للمؤمنين المجاهدين على جميع العالمين): ?إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ(1/483)
لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة:111]، فدل بما جعل لهم من الجزاء، وأعد لهم على ذلك من كريم العطاء أن ذلك من فعلهم له رضى.
ثم قال فيمن تعدى على المؤمنين، وخالف فيهم حكم رب العالمين: ?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ?[البروج:10]، فأخبر أنهم على ذلك عنده معذبون، فدل ذلك من فعل العدل الرحيم على أنهم كانوا له مخالفين، وفي تعديهم وقتلهم له عاصين، وعلى فعلهم لا فعله أوجب عليهم العذاب، ولو كان أذن لهم في ذلك لأجزل لهم عليه الثواب، فسبحان الرؤوف الجواد، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، المتقدس عن الإذن بالفساد.
فليعلم من سمع قولنا من العالم أن الإذن من الله على معنيين:
فأما أحدهما: فإذن أمر وإرادة وحكم ومشيئة، وذلك قوله سبحانه: ?وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ?[إبراهيم:7]، فهذا معناه معنى حكم بالزيادة للشاكرين، وبالعذاب للكافرين، وكذلك قوله: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإن اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ?[الحج:39].(1/484)
وأما المعنى الآخر: فإذن تخلية وإمهال للعصاة فيما يكون منهم من العصيان، فعلى ذلك يخرج معنى قول الله سبحانه: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ? يعني تعالى بتخلية الله لهم، وكذلك قال سبحانه في هاروت وماروت، ومن يتعلم منهما: ?وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلا بِإِذْنِ اللّهِ?[البقرة:102]، يريد سبحانه بتخلية الله لهم لإثبات الحجة عليهم، إذ قد مكنهم من العمل والفعل، ثم أمرهم بتقواهم وبصرهم عنهم وهداهم، وعن تعليم السحر وتعلمه نهاهم، فإن ائتمروا، وتعليم السحر وتعلمه تركوا، أنيلوا الثواب، وإن أبوا، وما نهوا عنه تخيروا، أوجب عليهم بفعلهم العقاب، وحرموا بذلك من الله الثواب.
تم جواب مسألته(1/485)
المسألة الثامنة عشرة: تزيين الله لعباده
ثم أتبع ذلك المسألة عن التزيين، فقال: خبرونا عن التزيين بالإرادة دون الأمر، فإن أنكروا أن الله يزين لعباده دون أن يكون أمراً منه، فقد رد الله عليهم قولهم، فقال في الأنعام: ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ?[الأنعام:108]، وقال في آخر السجدة: ?وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ?[فصلت:25]، وقال في النمل: ?إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ?[النمل:4]، هذا كله تزيين إرادة؟ أو ليس إرادة ؟
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه وقال، وتوهم من زور المحال، من أن الله تباركت أسماؤه، وعزت بكريم ولايته أولياؤه، زين للكافرين أعمالهم تزييناً، وحسنها في قلوبهم تحسيناً، وأنه أراد بذلك منهم إقامتهم فيها، ومثابرتهم عليها، جل الله عن ذلك وتقدس عن أن يكون كذلك، واحتج في مقاله، وفيما ارتكب من ضلاله بقول الله سبحانه: ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ?، فصدق الله تبارك وتعالى فيما قال، وتقدس ذو الجبروت والجلال.(1/486)
فأما قوله تبارك وتعالى: ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ?، فإن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام المخزومي لعنه الله؛ وذلك أنه لقي أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويقع في أدياننا. واللات والعزى لئن لم يكف عن شتمه آلهتنا لنشتمن إلهه. فأنزل الله في ذلك ما ذكر في أول هذه الآية، تأديباً للمؤمنين، فأمرهم بالكف عن شتم أصنام المشركين لكيلا يجترئوا بغير علم على شتم رب العالمين.(1/487)