الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ?، ثم قال سبحانه لنبيه: ?يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ?، ثم أخبر عما أخفوا، وما من المنكر أجنوا، فقال: ?يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا?.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أتته قريش، ونزلوا بأحد شاور أصحابه فأشاروا عليه بأن يثبت في المدينة، فإن أقاموا أضر بهم المقام حتى ينصرفوا، وإن صاروا إلى المدينة فدخلوا، قاتلهم بها الصغير والكبير والنساء من فوق البيوت. فأراد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أشاروا عليه من بعد بالخروج إليهم، فنهض فلبس لامته، ثم خرج عليهم، فقالوا: يا رسول الله، قد رأينا رأياً، إنا لم نقاتل ببلدنا وبين دورنا أحداً إلا أظهرنا الله عليه وبلغنا فيه ما نريد، فأقم بنا مكاننا على رأينا الأول. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان هذا أولاً، إنه ليس لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يقاتل عدوه.)). فخرج وخرج معه ألف من الناس، فلما فصل من المدينة رجع عنه عبدالله بن أبي سلول رأس المنافقين، في ثلثمائة من الفاسقين، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لقي القوم، فكان من أمرهم ما ذكرنا، ومن حالهم ما شرحنا، فذلك قولهم: ?لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا?، يقولون: لو أطاعنا أو كان الرأي إلينا لكنا قد ثبتنا في بلدنا حتى يدخلوا علينا فنقاتلهم أو يرجعوا عنا فنتبعهم، فقال سبحانه: ?قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ?، أي الأمر أمر نبيه الذي افترض عليكم طاعته، فليس لأحد منكم سبيل إلى مخالفته إلا بالكفر والعصيان للواحد العزيز الرحمن، ثم أعلاهم من بعد تلك السقطة، وأنزل عليهم الأمنة، ورد إليهم النصر، وشد لهم ما أضعفوه من الأمر، وصرف عنهم أعداءهم لأنْ يدركوا كل ما طلبوا أو طمعوا به فيهم من القوة والظهور عليهم.(1/478)


وأما ما ضل فيه من قوله: ?قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ?، فقال: إن الله كتب على الكافرين قتل المؤمنين، وكتب على المؤمنين ظهور الكافرين، وقتلهم إياهم؛ فتوهم أن الكتاب من الله هو حتمٌ، وفعلٌ فيهم وقضاءٌ كائن قضى به عليهم. ولو كان ذلك كما ظن الحسن بن محمد لكان المشركون لله مطيعين، ولأمره وقضائه منفذين، ولم يكن عليهم في ذلك إثم، ولا عند الله جرم، بل كانوا في ذلك مثابين وعليه غير معاقبين، ولم يكن المؤمنون بمثابين إذ الله فعل بهم ذلك من القتل وقضاه عليهم، وكل في الطاعة له سواء، تبارك عن ذلك العلي الأعلى.
فأما وجه الحق في ذلك، ومعنى قول الله سبحانه: ?كُتِبَ عَلَيْهِمُ?، هو عَلِم منهم لا أنه أكرههم ولا قضى عليهم، ولكن علم من يختار الخروج ولقاء الأعداء، ومن يقتل عند التنازل واللقاء، فعِلْمه وقع على اختيارهم، فخروجهم فعلهم لا فعله، وقتلهم فعل الكفار لا قضاؤه، فهم على خروجهم وقتالهم واجتهادهم مأجورون، وعند الله مستشهدون، والفسقة المشركون على قتلهم معاقبون، وعند الله في الآخرة معذبون، فكلٌ نال بفعله من الله ما أوجبه عليه من الثواب والعقاب، والحمدلله رب الأرباب، والمجازي للخلق يوم الحساب.
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ?، فقال بزعمه، وتوهم بجهله: أن الله يديل أهل الكفر والعصيان على أهل الطاعة والإيمان، وأنه أدال يوم أحد المشركين على النبي ومن كان معه من المؤمنين؛ فليس ذلك كما ذهب إليه، وسنشرح ذلك إن شاء الله تعالى، ونرد بالحق قوله عليه.(1/479)


فنقول: إن الله جل جلاله يديل المؤمنين على الكافرين، ولا يديل الكافرين على المهتدين، كذلك قال في يوم حنين: ?ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ?[الإسراء:6]، فكان برده الكرة للموحدين هو المديل لهم على الكافرين، ولم يقل في شيء من كتابه وما نزله من آياته إنه أدال أهل الشرك والنفاق على أهل الدين والإحقاق.
فأما ما ذكر الله من المداولة بالأيام بين جميع الأنام، فإن مداولته للأيام هو إتيانه بالليل تارة وتارة بالنهار، وأما ما يأتي ويداول بين عباده وأرضه فيهما من الأمطار التي يحيي بها الأرضين ويعيش بها جميع العالمين، قال سبحانه: ?وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ?[ق:9-11]، فسقى اليوم قوماً هم إلى السقي محتاجون، وسقى غداً آخرين، وما يحدث في الأيام من الأرزاق للعباد وإحياء ما شاء من البلاد، وبالمداولة بالأيام بين الأنام ما نزل بهم من المصائب الهائلات، وما يمن به عليهم من الآلاء والنعم السابغات، من ذلك ما يأخذ من الأقارب والآباء والإخوة والأبناء وجماعة القربى، وما يهب عز وجل لمن يشاء من الأولاد الذكور، وما يصرف ويدفع من الشرور، فهذه الأشياء كلها التي تكون في لياليه سبحانه وأيامه مداولة منه لا شك بين عباده. فأما ما يظن الجهال، وأهل التكمه في الضلال من أن معنى هذه الآية هو إدالة الفاسقين على الحق والمحقين، وأنه يمكن في الأرض للفاجرين، ويمهد للفسقة العاصين بما قد حرم عليهم، ولم يجعله - بحمدالله - لهم، بل شدده عليهم غاية التشديد في ترك مشاقة أهل الحق والتسديد، وأمر في ذلك بالاتباع لهم، وترك الخلاف في جميع الأسباب عليهم، (فهذا كذب منهم على رب العالمين، وكيف يجوز أن يديل ويمهد للعاصين)، بل كيف يتوهم على(1/480)


الرحمن الكريم الواحد ذي الجلال العظيم أن يكون أدالهم وأعطاهم ما عنه زجرهم ونهاهم؟ فتبارك ذو السلطان المبين عن مقالة أهل الضلال الجاهلين. (والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم).
تم جواب مسألته(1/481)


المسألة السابعة عشرة: معنى قول الله: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ?، ومعنى الإذن فيها
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله عز وجل: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ?[آل عمران:166]، فقال: خبرونا عن الإذن وإنكاركم أن يكون الله أذن في المعاصي. فقل: الإذن من الله على وجهين: فإذن أذن فيه أمر يأمر به؛ وإذن أذن فيه إرادة منه أن يكون لما يشاء من أمره. وما كان من معصية فلا تكون إلا بإذنه - وكذلك أظنه - وذلك إرادة منه. فإن قالوا: نعم؛ فقد أقروا بنفاذ أمره وإرادته، وإن جحدوا وأنكروا، فإن الله قد أكذبهم في كتابه، فقال للمؤمنين: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ?، يعني بذلك ما أصابهم من القتل والهزيمة. وإنما كان ذلك تأييداً للكافرين، فقد أذن الله للكافرين أن ينالوهم بما أصابوهم من القتل والجراح والهزيمة. فإن زعموا أن إذن الله أمره، فقد زعموا أن الله أمر بالمعاصي، وأمر المشركين أن يقتلوا المؤمنين، وكل مأمور إذا فعل ما أمر به فهو مطيع وله عليه أجر، والكتاب يكذبهم، وإن زعموا أن إرادته على وجهين: على وجه الأمر، والآخر على وجه الإرادة، فقد أقروا بالحق، وفي ذلك نقض لقولهم ورد عليهم، فقد زعموا أن الله يريد أن يكون ما لا يأمر به ولا يرضاه.
تمت مسألته
[جوابها:](1/482)

96 / 172
ع
En
A+
A-