ارتضى، وكره ونهى عن حياطة ما لم يشأ.
وأما ما ذكر من قول الله عز وجل: ?إذ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ انه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإذ يُرِيكُمُوهُمْ إذ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً?[الأنفال:43]، فقال وتوهم أن هذا الأمر المفعول الذي يقضيه الله هو قضاؤه على الفريقين بالقتال والمزاحفة والاقتتال. وليس ذلك - ولله الحمد - على ما قال، ولا على ما توهم من المحال، أن الله يقضي على الكافرين بقتال المؤمنين، ولا أنه يقلل المؤمنين في أعين الكافرين تشجيعاً منه لهم على قتال المؤمنين وتأييداً بذلك لهم على المهتدين، ولكن قللهم في أعينهم لكيلا يروهم بحالة الكثرة مع ما في قلوبهم من هيبة الروعة فيهزموا ويذهبوا ويرجعوا ولا يقاتلوا، فكان ذلك خذلاناً لهم وحرباً عليهم، وقللهم في أعين المؤمنين لكيلا يروهم على الكثرة التي كانوا عليها فيهابوا ويخافوا، فقللهم في أعينهم تأييداً منه لهم، ومعونة وإحساناً إليهم.(1/473)


فأما قوله: ?لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً? فمعناه: ليقضي الله وعداً كان منجزاً، وهو ما وعد رسوله والمؤمنين من النصر إذا نصروه، والتسديد لهم إذا قصدوه. ألا تسمع كيف يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ?[محمد:7]، ويقول: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ?[الحج:40]، فقضى تبارك وتعالى لرسوله وللمؤمنين عند الالتقاء بما وعدهم من النصر، وفَعَل لهم بما ضمن فعله من الأمر، وتغنيمهم ما وعدهم من إحدى الطائفتين: طائفة الجيش، وطائفة العير؛ فغنمهم الله طائفة الجيش كما وعدهم من الأمر، واتخاذ ما وعد المؤمنين من النصر على الكافرين، فهو الأمر الذي ذكر الله أنه كان مفعولاً، لا ما يتوهم أهل هذا القول الفاسد المخذول.(1/474)


وأما قوله: ?هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ?[الأنفال:62]، فنصر الله رسوله كما قال سبحانه: ?إذ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا?[الفتح:26]، فألف الله على ذلك بين المؤمنين، لا كما ظن الحسن بن محمد وأصحابه أهل العمى والقول بالردى: أن التأليف من الله كان بين الكافرين والمؤمنين في القتال، وأنه ساق بعضهم إلى بعض جبراً حتى ألف بينهم للقتال، وهذا فأحول المحال، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ألا ترون كيف قال: ?أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ?، و ?أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ?، فرد اسم المضمر في الهاء والميم من (قلوبهم) على الاسم الظاهر من (المؤمنين)؟ فسبحان أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
وأما ما سأل عنه من قول الله تبارك وتعالى: ?وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ?[الأنفال:7]، وقال: لو لم يخرج المشركون، أليس كان يبطل وعد الله لنبيه وللمؤمنين؟(1/475)


فقولنا في ذلك: أن الله سبحانه وعد نبيه كما قال إحدى الطائفتين: طائفة العير وطائفة الجيش المستعير؛ وأن الله لم يجبر الفاسقين على الخروج إلى قتال المؤمنين، بل عن ذلك نهاهم، وإلى طاعته وطاعة رسوله دعاهم، فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ?[الأنفال:20]، ويقول: لو أطاعوا الله فيما أمرهم لم يخرجوا لمحاربة الحق ولم ينصبوا.
فأما ما قال من أن ذلك لو كان لبطل وعد الله أهل الإيمان، الذي وعدهم من الغنيمة والإحسان، فليس ذلك كما قال أهل الجهالة والعمى والضلال، ولكن الله سبحانه علم أنهم سيخرجون، وعلى الحق والمحقين سيبغون، فلما أن علم ما يكون من اختيارهم، حكم بما علم منهم عليهم، وبشَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما سيسوق من الغنيمة والنصر إليه. ولو علم منهم اختيار المقام لما وعد غنائمهم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أن خرجوا وعلى الله ورسوله أجلبوا خذلهم سبحانه وأخزاهم وأذلهم وأرداهم، وألقى الرعب في قلوبهم كما قال سبحانه: ?سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا?[آل عمران:151]، فأرداهم ونصر المؤمنين، وأعز بتأييده الدين، وكبت الكافرين، فأبادهم بالسيف قتلاً، وشتت أمرهم وجمعهم هزيمة وأسراً، وأنزل الملائكة المقربين مدداً للمؤمنين، وإعزازاً للحق والمحقين، فزادهم قوة إلى قوتهم المركبة الثابتة فيهم.(1/476)


وأما ما سأل عنه وقال وتوهم من المحال في قول الله تبارك وتعالى: ?فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ?، وذلك الغم هو غمهم (يوم حنين) حين أدال المشركين على النبي والمؤمنين؛ فغلط وأخطأ في ذلك، ولم يكن ولله الحمد كذلك، ولم يدل الله الكافرين على المؤمنين؛ لأن الإدالة هي معونة وتأييد ونصر وتسديد، ولم يقل مؤمن بالله: إن الله نصر في ذلك اليوم أعداءه على أوليائه، ولا نصر جيش أبي سفيان اللعين على جيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن الله أراد بالمؤمنين المحنة والبلاء حتى يعلم الله أهل الصبر والاحتساب والتقى، ألا تسمع كيف قال الله: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?[محمد:31]. فنصرهم في أول الأمر وأراهم ما يحبون، فخالفوا نبيه وعصوه في تنحيهم عن باب الشعب الذي أوقفهم عليه، وأمرهم أن يرموا من صار من المشركين إليه، فلما رأوا الهزيمة على المشركين قد أقبلت، وتيقنوا أنها بهم قد حلت، طمعوا فيما يطمع فيه مثلهم من الغنائم، ورجوا أن يكون شدهم على الكفار مع أصحابهم أصلح، وفي الأمر الذي يراودون أنجح؛ فزلَّوا وعصوا الرسول فيما أمرهم من الثبوت على باب الشعب، وكان ثباتهم عليه على المشركين أصعب. فلما أن تنحوا أمكن للكافرين ما أرادوا، فظفروا من المسلمين ببعض ما أحبوا، ثم لاقوا من بعد ذلك من نصر الله للحق ما كرهوا، فثبت الله من بعد ذلك المؤمنين، وغفر لأهل الخطيئة المذنبين، وأنزل عليهم السكينة، وغشاهم النعاس أمنة منه، كما قال الله سبحانه: ?ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ?، قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ?قُلْ إِنَّ(1/477)

95 / 172
ع
En
A+
A-