وأما المعنى الثاني الذي أدخلهم فيه وصنعه بهم: فهو ما خلقهم عليه وصورهم من الخلقة، وقومهم عليه من الفطرة من الأجسام والعروق والعصب والعظام والأسماع والأبصار، وما عليه الجن من السرعة والذهاب في الهواء، وما خلق عليه الآدميين من الثقل والخفاء، فلا يقدر جني يزيح ما فيه من الخفة فيثقل، ولا آدمي عن الثقل إلى الخفة يرحل، وكذلك لا يقدرون على الخروج من سواد إلى بياض، ولا من بياض إلى سواد، ولا من قصر إلى طول، ولا من طول إلى قصر. فهذا ما لا يقدر عليه الخلق ولا ينالونه، وذلك أن الله خلقهم وجبلهم عليه، فلم يزدادوا من محبوبه، ولم ينقصوا من مكروهه.
تم جواب مسألته(1/468)


المسألة السادسة عشرة: معنى قول الله تعالى: ?وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ?
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قوله الله سبحانه: ?وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ?[الأنفال:7]، أليس إنما يريد العير والغنيمة أو المشركين، وغلبتهم النصر؟ فإن قالوا: نعم. فقل: هل كانوا يقدرون على أن لا يقاتلوا ولا يخرجوا إلى القتال؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد زعموا أنهم كانوا يقدرون على أن يخلف الله وعده الذي وعده رسوله، وهذا قول عظيم يدخلهم في أعظم مما كرهوا. (وإن زعموا أنهم لم يكونوا يقدرون على أن يخرجوا للقتال، لا المؤمنون ولا الكافرون؛ أقروا بما كرهوا)، فإن الله قد أراد أن يقاتل المؤمنون الكافرين، وأن يقاتل الكافرون المؤمنين، وأن الفريقين لم يكونوا يستطيعون التخلف ولا الترك للقتال حتى ينجز الله وعده، ويعز المؤمنين، ويذل الكافرين، ويوهن كيدهم، وكذلك أراد بالفريقين جميعاً، وقد كان فيما صنع الله بالفريقين يوم بدر بينة لنبيه وبرهان، وذلك أن الله سبحانه لم يكل المؤمنين إلى ما زعم الجهال المكذبون أن الله جعل في العباد استطاعة ثم وكلهم إليها، فلم يرض حتى أيَّدهم بنصره وأمدهم بملائكته ثم آجرهم على صبرهم على البأس، وهو صبَّرهم؛ وآجرهم على الثبات، وهو ثبتهم؛ وآجرهم على ائتلافهم، وهو ألَّف بينهم؛ وآجرهم على صرامتهم وهو ربط على قلوبهم؛ وآجرهم على ظفرهم، وهو ألقى الرعب في قلوب عدوهم؛ وهذا كله خلاف لقولهم، وردٌ عليهم. فجعل غلبة المؤمنين الكافرين نصراً وعزاً وتأييداً، وجعل غلبة الكافرين دولة بلاء وإملاء، فأنزل في قتال المؤمنين الكافرين بأحد: ?فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ?، أما الغم الأول: فالهزيمة والقتل؛ وأما الغم الآخر: (فإشراف خيل الكفار على الجبل حتى أشرفوا عليهم فظنوا أنها الهلكة)؛ قال الله تعالى: ?لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ?، من الغنيمة(1/469)


?وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ? يعني من قتل من إخوانكم، قال: ?وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ?[آل عمران:153]. فإن قالوا: إن الله إنما فعل بذنوبهم ومعصيتهم. قيل: فإنه إنما عصى منهم نفر يسير وهم الرماة، نحو من خمسين رجلاً، فقد عم ذلك البلاء جميع المؤمنين حتى وصل إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فشج في وجهه، وكسرت رباعيته، وقد كان المسلمون يوم أحد سبعمائة أو يزيدون. فأخبر الله أنه صنع ذلك بهم فأثابهم غماً بغم، أفليس الله قد أراد أن يصيبهم ذلك بأيدي الكافرين، ولأن ينهزموا، وأن يقتل من قتل منهم، ثم أخبر أيضاً بما صنع بهم بعد الذي كان منه إليهم من الغم، فقال: ?ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ?[آل عمران:154]، قال الله لنبيه: ?قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ?[آل عمران:154]، ثم قال: ?يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ?، فأخبر عما أخفوا في أنفسهم، فقال: ?يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا?، يقولون: لو كنا في بيوتنا ما أصابنا القتل، قال الله تكذيباً لهم: ?قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ?، فأخبر أنه قد كتب القتل على قوم قبل أن يقتلوا، وجعل لهم مضاجع إليها يصيرون، ثم نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأن يظنوا بالله كظنهم، فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إذا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي(1/470)


قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[آل عمران:155]، وقال في غلبة الكافرين المؤمنين وهزيمة المؤمنين، فقال: ?وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ?[آل عمران:140]، وقال: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ?[آل عمران:166]، في آي كثيرة يخبر أن الأمر كله منه، وهو يدبر أمر خلقه، ويصرفهم كيف يشاء، وأخبر أن الذي أصاب المؤمنين يوم أحد إنما كان بإذن الله من قتل الكافرين إياهم وهزيمتهم لهم، حتى قتل منهم سبعون رجلاً، وأنتم تزعمون أنه لم يأذن في المعاصي، وأنها لا تكون بإذنه، ولكن الإذن قد يكون على معنيين: أما أحدهما: فيكون أمراً منه يأمر به، والآخر: يكون إذناً على وجه الإرادة، أنه أراد أن يكون؛ لأنه فعال لما يريد. ثم قد عير الذين قالوا لإخوانهم: ?إذا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ?، وكذبهم وأخبر بما قد سبق منه لهم وما قد كتب عليهم، وعير الذين قالوا: ?لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا?(فكذبهم الله لما قالوا من ذلك).
فلو تدبرتم كتاب الله وآمنتم بما فيه ما عارضتم أمور الله تعالى ولا عبتم، ولفهمتم قضاءه، تردون عليهم برأيكم أمره، وتعقبون حكمه، وتظلمون عدله، وتقولون إنه فعل بخلقه شيئاً، ثم عذبهم عليه بما صنع بهم، فقد ظلمهم، فسبحان الله ما أعظم قولكم وأضعف رأيكم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/471)


وأما ما سأل عنه من القتال، فقال: هل أراد الله من المؤمنين أن يقاتلوا الكافرين؟ ومن الكافرين أن يقاتلوا المؤمنين؟ أم أراده من المؤمنين دون الكافرين؟ فبذلك ولله الشكر نقول، وإليه أمورنا تؤول فنقول:
إن الله شرع حقاً، (وأوجب صدقاً، فدعا إليه الناس، وكشف عنهم به الالتباس، ثم أوجب) على الخلق كلهم الدخول فيه والمقاتلة عليه، فكل من كان على ما شرعه الله تعالى من الحق، فقد أراد الله منه مقاتلة من خالف عنه من الخلق. وإنما أراد سبحانه من عباده أن يقاتلوا على ما رضيه من دينه، فأما ما لم يرده من أفعال الكافرين، ولم يشرعه ولم يرضه من عبادة أصنام المشركين فكيف يريد من أصحابه القتال عليه؟ وقد كرهه منهم، وذمهم على المقام فيه، ودعاهم إلى الخروج منه. وقد علم كل من كان له علم، وآتاه الله شيئاً من فهم الحكمة، أن المشركين عن آلهتهم كانوا يدافعون، وعن دينهم يقاتلون، وعلى ما كان آباؤهم من القتال يثابرون، فإن كان الله أراد منهم ذلك وجعلهم فيه كذلك، فقد ارتضاه، وعلى الأديان كلها اصطفاه، كما ارتضى الذي بعث به خاتم النبيين وأراده، وأمر بالقتال عليه المؤمنين. فإن قالوا: ارتضاه وأراده وأمر بالقتال عليه عباده؛ كفروا بالرحمن وتابعوا قول الشيطان. وإن قالوا: بل سخطه وشنيئه، وأمرهم لإشقائهم بالمقاتلة عليه؛ فقد سووا عنده بين ما ارتضاه وبين ما سخطه وأباه. وهل يأمر بحياطة ما لا يريد إلا الجاهل غير الرشيد؟ فإن كان حكم عليهم بعمل الردى لما أراد بهم بزعمهم من الشقاء، فعلى ماذا يعذبهم ويشقيهم وفي الحميم يصليهم، وهم له طائعون، وفي إرادته منهم متصرفون؟ أهذا عندهم من صواب الحكيم، العدل في فعله الرحيم؟ بل هذا من فعال الجائرين، وأعظم ما عاب سبحانه من اعتداء الظالمين. فلا يجدون بداً من أن ينسبوا إلى الله التجهيل، والظلم والتعدي، والجور الجليل، أو يدخلوا في الحق ويرجعوا إلى الصدق، فيقولوا: إن الله أمر وأراد حياطة ما(1/472)

94 / 172
ع
En
A+
A-