مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ?[المجادلة:5]، فلما أن أذلهم وهزمهم، وكبتهم كما كبت الذين من قبلهم، تدارك الكبت في قلوبهم وترادفت الحسرات في صدورهم ومرضت لذلك وبه منهم القلوب، وأحاطت به منهم الذنوب، فهم في كل يوم يرون مِن نَصْر الله لنبيه، ويسمعون عنه ما يزيدهم حسداً، ويُحدث لهم في قلوبهم مرضاً، حتى صدق الله رسوله الرؤيا بالحق التي كانت في غزوة الحديبية، أراه وأكمل له من دخول مكة آمناً لا يخاف رصاداً، فنزل بالمشركين من ذلك ما كانوا يخافون، وحقق الله لرسوله ما كانوا يحذرون ومن بغى عليه لينصرنه الله إن الله لقوي عزيز.
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ?، فقد يمكن أن الله سبحانه لما أن كذبوه وأخلفوه خذلهم، ومن الإرشاد والتوفيق تركهم، فتكمهوا في ضلالهم، وارتكبوا من أعمالهم، فأعقبهم كثرة ضلالهم وعظيم اجترائهم على قول الزور والبهتان، وارتكاب الضلال والعصيان تمادياً في ذلك حتى مردوا على الكذب والفساد والنفاق، وقول المحال والإلحاد، فيجوز أن يقال: أعقبهم الله نفاقاً، إذ تركهم من التوفيق والتسديد والتحقيق، حتى غلب عليهم الهوى، ورفضوا الخير والهدى، واستعملوا بينهم النفاق في كل أمرهم، فعادوا منافقين وللرشد تاركين، ينافق بعضهم بعضاً، ويفرضه في الغيب له فرضاً.(1/463)
وقد يكون الذي أعقبهم في قلوبهم النفاق هو فعلهم وكذبهم وغدرهم في موعدهم الذي أوجبوه لخالقهم، وذلك أن الكذب والردى يجر بعضه بعضاً، فلما أن كذبوا فيما قالوا ووعدوا خالقهم من أنفسهم فأخفلوا، كانوا لغيره فيما يعدون أخلف، ولسواه سبحانه أكذب، فكاذبوا بيناتهم وأبطلوا بالزور قالاتهم، فدعت حالة حالة، حتى تكمهوا في الغي والضلالة، ودعا ما كان منهم أولاً من الكذب والإخلاف إلى قلة الصدق والإنصاف، فحل بينهم التضاغن وذهب عنهم الائتلاف، فعاد كل منافق في قوله غير صادق. فكان الذي أعقبهم النفاق آخراً هو فعلهم للكذب والإخلاف أولاً، فجر فعل الصغائر إلى ارتكاب موبقات الكبائر حتى صار ذلك لهم عادات، وكان لهم وعليهم علامات يعرفون بها دون غيرهم ودلالات. فهذا أيضاً معنى يصح في اللسان، ويعرفه من كان ذا بيان، والحمد لله ذي الجلال والبرهان والجبروت والسلطان.
وأما ما سأل عنه من معنى قول الله سبحانه: ?إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ?: فقد يمكن أن يكون المعنيُّ باللقاء هو الله الرحمن الأعلى، يريد بقوله: ?يَلْقَوْنَهُ?: أي يلقون حكمه ويعاينوه. وقد يكون الذي يلقونه ما تقدم من عملهم ومضى، فيعاينوه في الآخرة يوم الحساب، ويجدونه عند الله مثبتاً في الكتاب، كما قال سبحانه: ?إنا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمام مُبِينٍ?[يس:12]، وقال: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة:7]، يقول سبحانه: يرى جزاءه، ويعاين ما حكم عليه به من الخير والثواب والعذاب والعقاب، فيكون لقاؤهم لأعمالهم هو توقيف الله لهم على القليل والكثير من أفعالهم، وما يكون منه سبحانه على ذلك من جزائهم؛ فيلقى المحسنون ما وعدهم الله في إحسانهم من الثواب، ويلقى المجرمون ما وعدهم من العقاب.
تم جواب مسألته(1/464)
المسألة الخامسة عشرة: هل يعذب الله عباده على ما صنعه فيهم؟
ثم أتبع ذلك (الحسن بن محمد) المسألة عن ما صنع الله بعباده، فقال: خبرونا عما صنع الله بالعباد، هل يعذبهم عليه؟ فإن قالوا: لا. فقل: خبرونا عمن زاده الله كفراً، ومدَّه في طغيانه، وأعقبه النفاق في قلبه هل يعذبه عليه؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد دخلوا فيما كانوا يعيبون، وإن قالوا: لا. فقل: فقد زعمتم أن الله لا يعذب من كان على الكفر، ولا يضر من كان عليه، وأنتم تزعمون أن الله إنما صنع ذلك عقوبة لهم. وسلهم: هل استطاع هؤلاء الترك لما صنع الله بهم، والخروج منه؟ فإن قالوا: لا؛ فقد أجابوا، وإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا بكتاب الله، وخالفوا قول الله إذ يقول: ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ?، (فإن كانوا يقدرون على أن يصرفوا من النفاق قلوبهم قبل أن يلقوه)، فقول الله بزعمهم باطل في قوله: ?خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ?[البقرة:7].
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه مما التبس عليه، فتعسف بقول الزور فيه، فقال: أخبرونا وبما عندكم نبئونا عن قول الله سبحانه: ?وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ?[الأنعام:110]، وفيما صنع الله بالعباد، تقولون: هل يعذبهم على ما فيه أدخلهم، وعليه جبرهم؟
فلعمري، لقد تقدم في ذلك الجواب، وقلنا فيه إن شاء الله بالصواب، ولا بد أن نقول فيما سأل عنه في هذا الجواب، نأتي على شرحه إن شاء الله بشرح شافٍ فنقول:(1/465)
إن معنى قوله سبحانه: ?وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ?: هو تركه (لهم من) توفيقه وتسديده وعونه ولطفه وتأييده، لما خرجوا من طاعته وارتكبوا بطغيانهم من معصيته، فولى بعضهم بعضاً، ولم يقم لهم سبحانه أمراً، كما قال سبحانه: ?وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ?[الأنعام:129]، فلم يبرأ سبحانه منهم ويكلهم إلى أنفسهم جل وعظم شأنه إلا من بعد أن تولوا وكفروا وتعدوا واستوجبوا منه الخذلان بما تمادوا فيه من الطغيان، كما يستوجب الرشد والتوفيق بالطاعة منه المؤمنون ويستأهل بالاهتداء منه والزيادة في الهدى المهتدون، كما قال أحكم الحاكمين، وأصدق القائلين: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ?[محمد:17]، فأخبرنا سبحانه أنه ولي المتقين، مجانب خاذل للفاسقين، وكذلك قال سبحانه رب العالمين: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ?[محمد:11]، يريد سبحانه أنه ولي الذين آمنوا والمتولي في كل الأسباب لهم، وأنه الخاذل للكافرين والتارك لتأييدهم، الرافض لتوفيقهم وتسديدهم. ألا ترى كيف يقول ويخبر بتأييده وصنعه، وتسديده ولطفه للمؤمنين، وتخليته بين المؤمنين والكافرين، وممن أطغاهم من الطاغوت والطواغيت، فهم الذين أجابوهم إلى دعائهم واتبعوهم في أهوائهم من مستجيبي الشيطان، وأبالسة الإنس الملاعين، الذين أطغوهم واستهووهم في الردى والطغيان، ومنوهم مع الإقامة على ذلك من الله الغفران، قال الله سبحانه: ?اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ?[البقرة:257].
وأما ما قال وعنه سأل فقال: هل يعذب الله أحداً على فعله به؟ أم يقدر الخلق على الخروج مما أدخلهم جل جلاله فيه؟(1/466)
فقولنا في ذلك على الله بما تقدم من شرحنا له، من أن الله جلا جلاله أعز وأكرم وأرأف وأرحم وأحلم من أن يُدخل عباده في سبب من الأسباب أراده، ثم يعذبهم عليه ويعاقبهم فيه، إن هذا إلا جور من الفعل، وإنه من فاعله لأجهل الجهل. فلو كانت أفعاله لا تتم إلا بأفعالهم لكانت حاله في العجز كحالهم، ولكان مضطراً إلى خلقهم وإيجادهم، إذ لا يتم له فعل إلا بأعمالهم، فلقد آتاهم إذا نظراً منه لنفسه لا لهم، وضرورة الخالق إلى الخلق في فعله كضرورة الخلق إلى الخالق في أمره، فكلٌّ إلى غيره محتاج. وذلك فبيِّن على قياسهم في المنهاج، ولو اشتبهت الحالات لاشتبهت بلا شك الذات، فسبحان من بان عن خلقه فليس له حد ينال، ولا مثل يضرب له به الأمثال، الذي بان من كل فعل فِعْلُه، وجل عن كل قول قولُه.
وأما ما قال من قوله: هل يقدر الخلق على أن يخرجوا مما أدخلهم الله فيه وصنعه بهم؟
فإن إدخال الله وصنعه بالعباد يكون على معنيين كليهما متضادين:
أحدهما: إدخال حكم وأمر وافتراض منه، معه تمكين واختيار، لم يرد الله أن يدخلهم فيه جبراً، بل أراد أن يدخلوا اختياراً بما ركب فيهم وأعطاهم من الآلات والاستطاعات ليكمل لهم الثواب على الطاعات، ولو أدخل قوماً في الطاعة، وأدخل آخرين في المعصية ثم أثاب وعاقب لكان على غير فعلهم عاقب وأثاب، جل الله عن ذلك رب الأرباب، فهم قادرون على الخروج من هذا الفعل على ما ذكرنا من تمكين الله الواحد الأعلى.(1/467)