المسألة الرابعة عشرة: معنى زيادة المرض من الله في قلب الإنسان
ثم أتبع ذلك المسألة عن الزيادة، فقال: خبرونا عن الزيادة، فإن الله يقول: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[البقرة:9]، وقوله لقوم: ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ?[التوبة:76]، (ألستم تعلمون أن الله زادها مرضاً، ومد آخرين في طغيانهم يعمهون، وأعقب قوماً نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه؟) فإن قالوا: نعم، ولكنه صنع ذلك بهم عقوبة بذنوبهم. فيقال لهم: فنعم، أفليسوا معذورين بما عملوا من معصيته حين فعل بهم ذلك؟ فإن قالوا: لا. فقل: فقد دخلتم فيما عبتم إذ زعمتم أن الله يعذب قوماً على ما لم يستطيعوا تركه؛ لأنه فعل ذلك بهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/458)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه وتوهم فيه من التجوير له في فعله، فقال: خبرونا عن الزيادة التي ذكرها الله سبحانه، وعظم عن كل شأن شأنه حين يقول سبحانه: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?، وعن قول الله سبحانه: ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ?، فسنجيب، إن شاء الله في ذلك من الجواب بما يقبله ذووا الإنصاف والألباب، فنقول في ذلك على الله سبحانه بالصواب:(1/459)


فأما قوله سبحانه: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ?، فهم المنافقون الذين كانوا يحتجرون من الرسول ومن المؤمنين بانتحال الإيمان وتلاوة ما أنزل من القرآن، وقلوبهم لذلك منكرة، وفي دين الله فاجرة، وبه سبحانه كافرة. فهم يراءون بألسنتهم الرسول مخافة القتل والتنكيل، وهم عن الله بضمائرهم حائدون، وللحق بينهم وفي سرائرهم معاندون، ألا تسمع كيف يقول فيهم، ويدل بصفاتهم عليهم حين يقول: ?وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إنا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ?[البقرة:14]، وقال سبحانه يخبر عنهم بما هم فيه وما يجتمعون في خلواتهم من المشاقة عليه: ?وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ?[البقرة:76]، ومن ذلك ما قال سبحانه في الأعراب: ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وإن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?[الحجرات:13]، ومن قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ما يقول الله سبحانه: ?سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ?[الفتح:11]، فأخبر الله عنهم بما كان من كذبهم فيما ذكروا أنه شغلهم، وأخبر بنفاقهم وتوهيمهم ما وهموا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من إحقاقهم فيما طلبوا منه من الاستغفار لهم والصفح في ذلك عنهم، فأمره الله سبحانه أن يخبرهم أن استغفاره لهم غير دافع عقوبة الله عنهم إذا أراد الله(1/460)


الانتقام في ذلك منهم، فقال سبحانه: ?قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا?، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من أمورهم بما كانوا يتوهمون أنه قد خفي عليه علمه مما كانوا ظنوه وأجنوه في صدورهم، فقال ذو المعارج والجلال: ?بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا?[الفتح:12]، فأخبرهم سبحانه بما ظنوا من الظن القبيح في الرسول والمؤمنين وتوهموا، وما زين في قلوبهم الشيطان من ذلك وأملى، وأنهم كانوا في ذلك قوماً بوراً.
وأما قوله جل جلاله، وتقدس عن أن يحويه قول ويشبهه شيء أو يناله: ?فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? فقد تخرج على معنيين وكلاهما إن شاء الله للحق مضاف.
فأما أحدهما: فأن يكون المرض الذي في قلوبهم هو الشك الذي هم فيه يلعبون من جحدانهم لما يرون من آيات ربهم، فقلوبهم لذلك مريضة، فلا يؤدون لله سبحانه من فرائضه فريضة، فهم في شكهم ولعبهم يترددون وفي خطيئاتهم وطغياء حيرتهم يعمهون، كما قال سبحانه: ?بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ?[الدخان:9]، فقد تكون زيادة الله لهم من المرض الذي ذكر أنه في قلوبهم لشكهم وضلالهم الذي به مرضت قلوبهم ومنه دويت صدورهم، فكلما زاد الله منه نبيه تبياناً وعلماً وفضلاً وحكماً ازداد لذلك مرض قلوبهم تراكماً، وزادهم الله بتنزيل الحق غيظاً وغماً.(1/461)


وقد يكون ذلك المرض حل في قلوبهم لشدة الحسد منهم لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم على ما جعل الله من البركات واليُمْن في كل الحالات لديه، ولما خصه الله به دونهم وآثره به سبحانه عليهم من هبوط الملائكة نحوه، وما عظَّم به الله له خطره وقدره، فجعله الله له صفياً يوحي إليه وينزل إليه وحيه بفرائضه عليه، وما خصه به من أن جعل طاعته له طاعة، ومعصيته له معصية، فقال: ?مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ?[النساء:8]، وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ?[النساء:59]، وقال سبحانه: ?مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا?[الحشر:7]، وقال: ?وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ?[الفتح:17]. فلما أن رأت قريش هذه الكرامات البينات النيرات التي لا يقدرون على دفعها ولا يأتون أبداً بمثلها، اشتد لذلك حسدها لرسول رب العالمين، وعهدوا عليه وعلى من تبعه من المؤمنين؛ فمنعه الله منهم، ورد حسدهم وبغيهم في نحورهم، فنصبوا له المحاربة وطالبوه أشد المطالبة، فردهم الله بغيظهم، كما قال سبحانه: ?وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا?[الأحزاب:25]، وذلك حين تحزبت قريش والعرب وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غاية الطلب، فكفاه الله في ذلك اليوم والمسلمين القتال بأخيه ووصيه علي بن أبي طالب أفضل المستشهدين، فقتل عمرو بن عبد ود اللعين، وكان عماد المشركين، وفارس المتحزبين، فانهزم بقتله جميع الكافرين، وفل الله حد المبطلين، وأظهر دعوة المحقين، ونصر رسوله خاتم النبيين، وكبت أعداءه المحادين، قال سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ(1/462)

92 / 172
ع
En
A+
A-