ألا تسمع كيف قد أثبت لهم الفهم بما يقال لهم، والمعرفة بما يتلى عليهم في قوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ?[محمد:25]، فأخبر الله الواحد الجليل فيما أوحي ونزل من التنزيل أن الهدى قد تبين لهم وصح لديهم وثبت في قلوبهم، ولولا سلامة القلوب من الختم الذي يذهب إليه الجاهلون ويقول به على الله سبحانه الظالمون، لم يثبت أبداً في قلوبهم الهدى، ولو لم يثبت لم يبن. ثم أخبر الله ما سبب ارتدادهم في الطغيان ومعصيتهم من بعد أن بين لهم ذلك الرحمن، فقال: ?الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ?، ولم يقل: الرحمن ردهم وأضلهم. ثم أخبر بالسبب الذي كان عنهم، فتمكن إذ قالوه الشيطان منهم، فقال سبحانه: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ?[محمد:26].(1/453)


ثم أخبر بما يصيرون إليه عند موتهم من ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم، فقال: ?فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ?[محمد:27]، ثم أخبر لِمَ فعل ذلك بهم، وحتم عليهم بضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم، فقال: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:28]، ثم قال: ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا?[محمد:10]؛ أفيظن أحد ممن وهب لباً وتمييزاً وعلماً أن الله سبحانه أوجب ما أوجب عليهم، وذكر ما ذكره عنهم، وأمرهم بالسير في الأرضين، والنظر في آثار الأولين ممن هلك بما هم عليه من الكفران، وبما يختارونه من الفجور والعصيان، ولم يجعل لهم إلى ذلك سبيلاً، ويركب إليهم فيه دليلاً، وهم لا يقدرون على ذلك لما قد فعله بهم من الختم على أسماعهم وأبصارهم والطبع على قلوبهم التي بها يعقلون، وبسلامتها يميزون ويفهمون؟ كذب العادلون بالله والقائلون الزور على الله؛ بل سلَّم ذلك لهم، ووفَّره لإكمال الحجة عليهم، ثم أمرهم بالتسديد، ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ?.
ثم نذكر من بعد دفع هذه المهالك، ونشرح الصدق بما علَّمنا الله من ذلك، فنقول:(1/454)


إن معنى الختم والطبع من الله تبارك وتعالى، هو على معنى التمثيل لهم والتقريع، وإثبات الحجة عليهم، وتبيين ضلالتهم لهم. فيقول سبحانه: إن امتناعكم من فعل الرشد، وقلة قبولكم له كمن طُبع على قلبه - بما مُنِعَه من لُبِّه، وحُرِمَه من تمييزه ونظره وجودة فهمه، وبما عُدِم من النظر والغوصان في بحور الفكر - من البهائم التي قد منعها الله من ذلك كله، إذ لم يجعل لها عقولاً تميز بها. فلما أن لم يجعل لها سبيلاً إلى ما يناله البشر من العقل والفهم والتمييز والنظر، كان ذلك منه فيها فعلاً، وكان منه طبعاً على قلوبها عما فهمه من التمييز أربابها. فمَثَّلَهم في قلة تفهمهم وإنصافهم لمعقولهم، وتركهم لرشدهم، واتباعهم لغيهم بمن طُبع على قلبه وخُتم عن التمييز على سمعه وبصره، عن أن يعلم ما يعلمون، أو يفهم ما يفهمون من البهائم التي جعلت قلوبها على غير ما جعلت قلوبهم من ذلك، وختم عليها فكانت بهائم سوائم كذلك. ألم تر كيف يقول ذو العزة والإنعام: ?أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ?[الأعراف:179]، وقال: ?إِنْ هُمْ إلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً?[الفرقان:44]، يقول: إذ أعطوا من الفهم والتمييز والنطق وجودة التحرف في غامض الفكر ما لم تعطه البهائم، وما قد حجبها عنه العزيز العالم، وخلقها على غيره من الخلق وصورها على ما قد يراه جميع الخلق، فأبوا استعمال ما ركب فيهم، وامتن الله به سبحانه عليهم، وتركوا النصفة، وأخذوا في المكابرة والمعاندة لربهم، الكفر لنعمة خالقهم، فكانوا لذلك وفيه أضل من الأنعام، إذ تركوا ما لو علمته الأنعام وعرفته وميزته وفهمته لقبلته وتسارعت إليه، ولدخلت بأجمعها فيه، ثم لثابرت إلى الممات عليه. فهذا والحمدلله قول لا ينكسر على من قال به، بل يصح وينير لذوي العقول، ويستبين ويصح.(1/455)


وقد يخرج ذلك على معنى آخر، فيكون على قدر عِلْمه منهم بما سيكون من اختيارهم للضلال، وإيثارهم للسفال، وتركهم للهدى، وقلة رغبتهم في التقى، وأنهم لِعَنَتِهم وحميتهم وشدة حسدهم لنبيهم، لا يختارون ما جاء به من الله برأيهم، وأنهم لا يطيعونه فيما دعاهم من حظهم إليه، وأنهم سيجاهرون بالجرأة عليه؛ فلما أن علم الله منهم أنهم يختارون - بما ركب فيهم من القدرة والاستطاعة وسلم لهم من الجوارح والآلة - معصيته على طاعته، ومخالفة مرضاته، وأنهم يلقونه يوم الحشر كفاراً كذلك، فختم لهم، إذ قد علم من غاية أمرهم بذلك، فختم عليها ولها بما علم أنه يكون آخر اختيارها وعملها. وكذلك قيل في محمد سيد المرسلين إنه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين فسمي خاتمهم إذ كان آخرهم، فلما أن علم الله آخر أعمالهم وما عليه يكون فناء آجالهم، ختم بذلك عليهم ودعاهم به، وذكره عنهم وفيهم، فكان ذلك العمل منهم اختياراً، وكان ما قال الله فيهم منه إخباراً.(1/456)


وأما ما ذكر الله من الطبع على قلب من على قلبه طُبع، فسنقول فيه بوجهٍ، من قال به إن شاء الله أصاب، ووجده بيناً نيراً في اللسان والإعراب، وهو ما تقول به العرب لمن ذكر في ملأ من الناس عن إنسان شيئاً مما يفعله ويكتسبه ويصنعه من الردى والخنا: يا فلان طبعت ويحك فلاناً وأفسدته وطرحته بما طبعته به من أعينهم. فعلى ذلك يُخرَّج الطبع من الله لقلوب الفاسقين عند ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين وعباده المؤمنين، فيكون طبعه لها عندهم هو ما ذكر وأخبر به عنها من باطن إسرارها، وفاحش إضمارها وفسادها، وقلة قبولها للحق واهتدائها، وكفرها لربها وحسدها لنبيها، وبما فيها من الدَّغَل والعداوة لخاتم النبيين والمشاقة لرب العالمين، والمنافقة للمؤمنين، والصد عن سبيل أحكم الحاكمين، كما قال أصدق الصادقين: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:32]، فيكون ما قص عنهم من قصصهم وأخبر به من الضلالة عنهم ومن الحيرة والتكمه والجهالة والكفر والشقاق والسفالة، وما سماهم به من ذلك ودعاهم طبعاً طبعهم به. فهذه - والحمدلله - حجة فيما سأل عنه من الختم والطبع، شافيه مجزية لمن أراد الحق من جميع الناس كافية. والحمد لله على توفيقه، ونشكره على تسديده، وكذلك يقول المحقون، لا ما قال في الله المبطلون: إنه سبحانه ختم على الأسماع فلا تسمع، وعلى الأبصار فلا تنفع، وأنه على قلوب الكافرين طبع، ثم أمرهم بخلاف ما فعل بهم، وكلفهم فعل ما منه منعهم، وعنه سبحانه حجزهم، ثم عذبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله لما قد حجزهم عنه به من طبعه وختمه، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وخسر المبطلون خسراناً مبيناً.
تم جواب مسألته(1/457)

91 / 172
ع
En
A+
A-