أفلا ترى كيف بيَّن ما كان منه فعلاً، وبيَّن ما أمر به العباد أمراً؟ فلم يقل فيما حتم به عليهم حتماً، وما كان منه عليهم قضاء وحكماً من الموت، ولا من الخلق: موتوا؛ ولا: لا تموتوا؛ ولا: اخلقوا؛ ولا: لا تخلقوا. ولم يقل فيما أراده منهم فعلاً بتخيير واختيار لعظيم المنة والاختيار: كل من قضينا عليه المعاصي عاص؛ كما قال: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ?، ولم يقل: أمرنا وقضينا عليه بالعصيان؛ كما قال: ?إنا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ?[ق:43]، بل أخبر أنه من ذلك بريء، فقال: ?إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ?[الأعراف:28]، فتبارك الله الواحد الأعلى الذي إذا أراد أن يفعل شيئاً كان بلا كلفة، ولا إضمار، ولا تفكر، ولا اضطراب، إذا أراده أوجده، وإذا أوجده فقد أراده، فقضاؤه كائن، وفعله من أفعال العباد بائن، ليس له مثل ينال، ولا شبه تضرب له فيه الأمثال، وهو الواحد المتعال، الصمد الواحد الأحد الذي ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:3-4].
تم جواب مسألته(1/448)


المسألة الثالثة عشرة: الطبع والختم
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن الطبع والختم، فقال: أرأيتم من طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره، أهو ممن دُعي إلى الإيمان، فيثاب على أخذه ويعاقب على تركه؟ إن قالوا: نعم. فقل: وكيف يقبلون الإيمان وقد ختم على قلوبهم، والله يقول: ?سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ?[يس:10]؟ هل ضرهم الطبع أو الختم؟ أم نفعهم؟ أم لم يضرهم ولم ينفعهم؟
فإن قالوا: إنما ختم على قلوبهم بكفرهم، فقل: هل ضرهم الطبع حين فعل بهم، وحال بينهم وبين التوبة، والدخول في الإيمان؟ فإن قالوا: لم يضرهم ولو ساءوا آمنوا فالله قد كذبهم واجتروا على الرد على الله قوله، فقل: فتراهم حين طبع على قلوبهم حين لم يقبلوا الإيمان، فإن قالوا: فإنهم لا يقدرون على الإيمان حتى يفتح الله قلوبهم فقد أقروا لله بقدرته، وانتقض عليهم قولهم؛ إذ زعموا أن الختم قد ضرهم، وأنهم يعذبون على ما كان من تركهم الإيمان وأخذهم بالكفر بعد الختم وعملهم بما لا يستطيعون تركه.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من الطبع والختم من الله، فقال: أرأيتم من طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره، أهو ممن دُعي إلى الإيمان فيثاب على أخذه ويعاقب على تركه؟ فقولنا في ذلك على الله بالحق:(1/449)


أن الله لم يرد بذلك إذ قاله أنه طبع (على قلوبهم [طبعاً] لا يقدرون على الفهم معه، ولا أنه ختم على سمعهم ختماً لا يقدرون على) السمع والاستماع، وعلى البصر فلا يقدرون على الإبصار والانطباع، وذلك فأبين الأمر ولا ينكره من عقل. ألم تر وتسمع أن الجاهلية كانوا أرصن عقولاً، وأعظم أحلاماً، وأكثر أفهاماً من أهل هذا الدهر؟ ولذلك قالت قريش للرسول فيما كان يعيب من آلهتهم ويبين لهم في ذلك من جهالتهم، فكانوا يقولون لعمه أبي طالب، ومن قام معه دون رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته وقرابته: عاب آلهتنا، وسخف عقولنا، وأطاش أحلامنا؛ فكانوا ذوي أحلام وعقول جمة، وأفهام، فكيف يكون من طبع على قلبه على ما قد يسمعون عنه من فهمه؟ وكذلك كانوا يستمعون إلى الرسول إذا قرأ القرآن، ويقولون في قراءته كل قول، ويدبرون فيه التدبير، ويسطرون فيما جاء به الأساطير. من ذلك ما كان يقول ويتبعونه عليه من القول منهم الوليد بن المغيرة اللعين، وكانوا له على كفره تابعين، حين تلا عليهم قول رب العالمين، فقال ما حكى الله عنه في سورة (نون) حين يقول: ?وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إذا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ?[القلم:10-15]. كذلك كان يقول الوليد الملعون: ?إِنْ هَذَا إلا قَوْلُ الْبَشَرِ?، ويقولون: ?مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ?، كما حكى الله في الكتاب المكنون، وقال فيهم ربهم، وذكر عنهم ومنهم، فقال سبحانه: ?أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ?[الدخان:13]، ويسمعهم ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحاججهم به، ويقرأ القرآن عليهم، ويأمره الله سبحانه بذلك فيهم، فيقول: ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ(1/450)


الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ?[الشعراء:214]، وقال جل جلاله، وصدق في كل قول مقاله: ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً?[المزمل:10]، وقال: ?فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا?[طه:130].
فهل يقول أحد من ذوي العقول إن من كانت هذه حاله كان مختوماً على سمعه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يناجيه ويناديه؟ وهل يجوز على الرسول أن ينادي ويناجي من سمعه مختوم؟
وكذلك كان نظرهم وأبصارهم فيما يأمرهم الله أن يبصروه من السماوات والأرض إذ يقول: ?أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ?[ق:6]، فهل يجوز على الله أن يأمر بالإبصار من هو بالختم أعمى؟ فهذا لا يجوز على ديَّان الآخرة والدنيا، ولن يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا عمياناً لا يبصرون، وإنهم كانوا صماً لا يسمعون، ومن ذلك ما قد بان منهم ما كانوا عليه من الكمال والمعرفة، والعقول والتمييز في كل حال.(1/451)


فإن قالوا: إن الله طبع على قلوبهم، وختم على سمعهم وأبصارهم عما جاء به الرسول من الحكمة والقول فقط، وخُلوا وما سوى ذلك؛ فقد وقعوا في أعظم مما كرهوا من المهالك، إذ زعموا أن الله سبحانه ختم على سمعهم وأبصارهم، فلا يبصرونه ولا يسمعونه، وطبع على قلوبهم فلا يفقهونه ولا يميزونه؛ ثم أرسل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى مغالبته، ونفي ما فعل بهم ربهم وركَّب فيهم، وتغييره - تعالى الله عن ذلك - وإزاحته عن أنفسهم؛ إذ كان قد أرسله إليهم يدعوهم إلى الإيمان والاهتداء والخير والبر والإحسان، والطاعة له ولنبيه والاستماع لأمرهما، والعمل بالقول وباللسان والضمير بطاعتهما، وقد علم أنهم لا يقدرون على ذلك. فنسب، من قال بهذا، إلى الله العبث والاستهزاء بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاهم يدعوهم إلى المحال، ويأمرهم بالمغالبة والدفع لما فعل فيهم ذو الجلال.(1/452)

90 / 172
ع
En
A+
A-