المسألة الثانية عشرة: نفوذ إرادة الله
ثم أتبع ذلك المسألة عن الإرادة، فقال: أخبرونا عن الإرادة إذا أراد الله شيئاً، يكون أو لا يكون؟ فإنه قد قال: ?فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ?[البروج:16]، فإن قالوا: نعم، قيل لهم: وهل أراد الله أن يدخل خلقه كلهم في الهدى؟ فإن قالوا: نعم، قد أراد أن يدخلوا كلهم في الهدى على غير جبر منه ولا إكراه. فيقال لهم: فهل دخلوا في الهدى كما أراد على غير وجه الجبر منه لهم والإكراه؟
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من إرادة الله سبحانه، فقال: إذا أراد الله شيئاً يكون؟ أو لا؟ فإنه قد قال الله: ?فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ?، فكذلك قولنا في خالقنا ومصورنا وبارئنا ومميتنا ومحيينا، سبحانه وجل وتقدست أسماؤه كما قال في نفسه: ?فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ?، فكل ما شاء أن يفعله سبحانه فعله.
ثم نقول من بعد إثبات القدرة للرحمن ونفي التشبيه والتجوير عنه في كل ما شاء: إن الإرادة من الله على معنيين نيرين - عند من علمه الله وفهمه - بينين:
فإحداهما: إرادة حتم وجبر، والأخرى: إرادة أمر، معها تمكين وتفويض.(1/443)


فأما إرادة الحتم فهي: ما أراد من خلق السماوات والأرض والجبال، وما أنبت من الأشجار: ?وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ?[النحل:8]، وما أراد سبحانه من قضاء الموت على خلقه من جميع أهل سماواته وأرضه، والذهاب والفوت، فقال سبحانه: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ?[آل عمران:185]، وقال: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ?[الرحمن:26]، فأخبر بما حكم به على خلقه، وبما ألزمهم في ذلك وأوجبه عليهم من حتمه، فقال: ?قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?[الجاثية:26]، وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إخباراً منه بما حتم عليه: ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ?[الزمر:30].
ومن إرادة الحتم التي أراد الله فِعلها فَفَعلها قوله: ?ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا?[فصلت:11،12]، فكان قضاؤه فيهن خلقه سبحانه لهن حين أراد إيجادهن وصورهن، وأوحى ما شاء فيهن من أمرهن.(1/444)


ومن ذلك ما يقول الواحد الجبار ذو الملكوت الغفار: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى?[الزمر:42]، فذكر أن الموت منه، وأنه يقضي به ويبديه، فكان هذا منه إرادة حتم ليس لأحد فيها منهم فعل.
ومن ذلك ما قال الله سبحانه: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]، فأراد خلقه فخلقه، وقال: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ?[الحجرات:13]، فأخبر عن نفسه بما أراد أن يجعله منهم، فجعله وصوره وأوجده كما قال: ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إذا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?[يس:82].(1/445)


وأما المعنى الآخر: فهو الإرادة التي معها تمكين، وهو قوله سبحانه: ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[الإسراء:23]، فكان قضاؤه في ذلك سبحانه ما أمر به من أن لا نعبد معه غيره، وما أمر به من البر والإحسان إلى الوالدين، فأراد الله سبحانه من العباد أن يطيعوه ويعملوا له بما ركب فيهم وأحسن به إليهم من الاستطاعات، وما أعطاهم من الآلات، بالاختيار منهم لطاعته، والإيثار منهم لمرضاته، ليثيبهم على فعلهم، ويعاقبهم على تركهم. ولو أراد منهم الطاعة جبراً، وصرفهم عن المعصية قسراً لكان كلهم جارياً في طاعته تابعاً لمرضاته، ولم يكن المذنب الشاسع أولى بالعقوبة من المهتدي الطائع، ولم يكن العامل بالطاعة أحق من عامل المعصية، إذ كانا كلاهما أدخلا في عملهما إدخالاً، واستعملا في إرادة الله استعمالاً، فتبارك الله عن ظلم العباد، وتقدس عن القضاء بالفساد، الذي لم يُطَع كرها، ولم يُعْص مغلوباً، بل أمر ونهى، وحذر وهدى، وعرَّف النجدين، وبين العملين، ثم أعطى كل شيء خلقه، وأعد للميطعين الثواب، وللعاصين العقاب، ثم قال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ?[آل عمران:102]، وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا?[النساء:136]، فأمرهم سبحانه بالإيمان، وحضهم على التقى والإحسان، ونهاهم عن الكفر والطغيان، وعن جميع ما لم يرد من العصيان، فقال سبحانه: ?وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى انه كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً?[الإسراء:32]، وقال: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي(1/446)


حَرَّمَ اللّهُ إلا بِالْحَقِّ?[الأنعام:51،151]، ومثل هذا في القرآن كثير، وقال: ?لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا?[آل عمران:130]، وقال: ?إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا?[النساء:10]... الآية، ولله الحمد بأبين البيان، فأمرهم بما أراد من طاعته، ونهاهم سبحانه عن معصيته.
ثم قال سبحانه من بعد أن أعطاهم من الاستطاعة ما أعطاهم، ثم أمرهم ونهاهم، فقال: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة:7]، وقال: ?مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا?[النساء:123]، ثم قال سبحانه: ?فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ?[الواقعة:88-95].
ثم قال من بعد إكمال الحجة عليهم وإثباتها فيهم: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إنا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا?[الكهف:29].(1/447)

89 / 172
ع
En
A+
A-