مُّنِيبٍ?[ق:6ـ8]، يقول: توقيفاً لهم، وتعريفاً واحتجاجاً على ذوي العقول، وقال: ?فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ?[الحشر:2]، فحض بالأمر بالاعتبار ذوي الأبصار.
وقال سبحانه: ?أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، فنظر قوم وفكروا، وعقولهم في ذلك أنصفوا، فأبصروا واهتدوا وعرفوا الحق فرشدوا، وأنكر قوم وخالفوا ما تفرع لهم من المعقول فجحدوا، فعاقبهم الله على ذلك من فعلهم، وأضلوا أنفسهم بمكابرة عقولهم، وأبطلوا النظر واتبعوا الجبر، فاتبعوا الهوى، وتركوا الهدى، وتعلقوا بالأخبار المنقولة الكاذبة، ورفضوا ما فيهم من حجة الله الصادقة، فبذلك عندوا، وأنفسهم بالتجبر منهم أهلكوا، فليس للعباد على الخالق من حجة يحتجون بها، ولا متعلق ولا طلبة في ذلك يطلبونها. بصرهم وهداهم، وركب فيهم ما كفاهم، وبعث إليهم المرسلين مبشرين لهم ومنذرين، فأمروهم ونهوههم، وعذابه حذروهم، وإلى ثوابه دعوهم، وأروهم عجائب الآيات، واحتجوا عليهم بالدلالات: ?لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وإن اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال:42].
فهذا قولنا في ربنا، وشرحنا لما احتج به سبحانه علينا.(1/438)
فإن قالوا وبما ندفعه - إن شاء الله بحقنا - تعلقوا: ألستم تزعمون، وبغير شك تقولون: إن الله قسم العقول بين خلقه، وجعلها لهم حجة فيهم، نعمة أنعم بها عليهم، وأيادي أكملها لديهم؛ ثم تقولون إنه افترض عليهم فروضاً فجعلها عليهم كلهم شرعاً سواء، إن أدوها أثيبوا، وإن تركوها عوقبوا؛ ثم تقولون ونقول: إن ذلك لا ينال إلا بالعقول، وقد نرى اختلاف العقول في الناس أجمعين، فنعلم أنهم فيها متفاضلون، وأن ليس هم فيها على القسمة متساوين، فأين ما تحوطون من عدل رب العالمين، وقد ساوى بين عباده فيما افترض عليهم، وجعل ذلك سبحانه سواء فيهم، ثم فضل بعضهم على بعض فيما لاينال أداء ما فرض من الطاعات، ولا يوصل إلى تمييز شيء من شيء إلا به من الآلات، من العقل الرصين، والفهم المبين؟
قلنا لهم: قد سألتم، فاسمعوا ما به أُجبتُم. فكذلك بالعدل على الله نقول، وفي كل أمرنا فيه سبحانه نحول، وسنبين لكم إن شاء الله الجواب، ونشرح لكل ما تتكمهون فيه من الارتياب، ونختصر ذلك لكم بما يقر في أفهامكم ويثبت، إن كنتم للحق طالبين مريدين في ألبابكم.(1/439)
فنقول: إن الله تبارك وتعالى افترض على خلقه فروضاً، وأوجب عليهم سبحانه أموراً، ثم أعطاهم ما بأقل قليله ينال أداء ذلك من الآلات، ويقتدر على أدائه متى قصد من الساعات. فجعل في أقلهم عقلاً من العقل ما ينال بأقل قليله تمييز ما أوجب الله عليه تمييزه، والإحاطة بما أوجب عليه الإحاطة به من معرفته، والإقرار بوحدانيته، والأداء لكل فرائضه. فساوى بين عباده فيما إليه يحتاجون، وله في فرائضه يستعملون، ثم زاد بعد أن ساوى بينهم في الحجة من شاء فضاعف له العطاء والكرامة، وزاده في العقل والسلامة، كما زاد بعضهم بسطة في العلم والجسم، فليس لأحد على الله في ذلك حجة، إذ قد أنالهم من ذلك أكثر من البغية لئلا يكون للمخلوقين عليه حجة فيما فضل به بعضهم على بعض من الجلَد والطول والجمال والهيئة والكمال والبياض والفصاحة، فكل ما أدخلتم علينا فيما فضل الله به بعض الخلق من العقول، فواجب عليكم لنا أن تجيبونا به فيما بين البياض والسواد والقصر والطول حذو المثال بالمثال ليس لكم - والحمدلله - عنه تحرف ولا انتقال إلا بأن ترجعوا إلى الصدق؛ فقد بان لكم - والحمدلله - الحق، فاتقوا إملاء الشيطان وتسويله وإغوائه وتخييله، ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم: ?إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ?[محمد:25]، وسنضرب لكم بقوة الله وحوله في ذلك مثلاً يبين لكم أموركم، ويخامر نور حقه ضميركم وصدوركم.(1/440)
أرأيتم رجلاً له بيتان من حشيش، وله غلامان، فدفع إلى أحد غلاميه شمعة واحدة متوقدة، ودفع إلى الآخر ثلاث شمعات، ثم قال لهما: ليحرق كل واحد بما معه ما في أحد هذين البيتين من الحشيش، فهل ترون لصاحب الشمعة الواحدة المتوقدة الملتهبة على مولاه حجة في أن أعطى صاحبه ثلاثاً وأعطاه واحدة، فيقول: لا والله ما أقدر أن أحرق بيتاً من حشيش بهذه الشمعة الواحدة، فأعطني ثلاثاً مثل صاحبي، وإلا فلا حيلة لي في إحراقه؟
وقد يعلم كل ذي عقل سوي من رشيد أو غوي، أن الذي يكفي هذا الحشيش من هذه الشمعة لفحة واحدة، وأنه ومن معه ثلاث شمعات، وعشر واحد في القدرة على إحراق ما أُمِر بإحراقه، وإنفاذ أمر سيده فيه، فهل تقولون لسيده: كلفته وصاحبه إحراق بيتين من حشيش متساويين، ثم كلفته إحراقه بشمعة واحدة، وكلفت صاحبه إحراق بيته بثلاث، فأعطه ثلاثاً، وإلا فقد كلفته ما لا يناله بهذه الواحدة ولا يطيقه، فأنت له في ذلك ظالم، وعليه بفعلك هذا متحامل.
أم تقولون للعبد: أنت مخطيء في فعلك، جاهل في قولك، فأنت تنال بهذه الشمعة من حشيشك مثل ما ينال صاحبك بشمعاته في حشيشه، والأمر في قليل النار وكثيرها عند تأججها والتهابها سواء، لا حجة لك على مولاك فيما كلفك وأعطاك.
فكذلك - والحمد لله - الأمر فيما أعطى الله العباد من حجته فيما فضل به من شاء من بعد ذلك من خليقته. فأما من سلب عقله من المجانين والأطفال، فلم يوجب الله عليهم الأعمال، بل أزاح عنهم ذلك، ولم يوجبه عليهم، وحالهم في وقتهم ذلك عند الله فحال لا يسألهم فيها عما افترض من الأعمال حتى يفيقوا، ومما هم فيه يخرجوا، ويبلغ الأطفال من الفهم ما يصح لهم به التمييز ويخرجوا من حال الطفولية والصغر إلى حال القوة والكبر، وفي ذلك ما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يعقل.)).(1/441)
والحمد لله العدل في فعله، الرحيم بخلقه، الذي كلف يسيراً، وأعطى عليه كثيراً.
تم جواب مسألته(1/442)