فإن أردتم أن كل شيء مما بث الله وأخرج رزق العباد، فكذلك لعمري هو؛ لأن الله قد سماه في الجملة بذلك، فقال: ?وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ?[ق:11ـ19]، يقول سبحانه: أخرجنا به ما لا يخرج من الحب والأكل إلا بالماء. وقال: ?أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ?[الواقعة:63]، وقال: ?أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ?[عبس:25ـ32]، فقال: ?شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا?، يريد شققناها عن النبات الذي يخرج منها من الحب والفواكه وغيره، وفلقناها فلقاً. والأب: فهو الحشيش والعشب الذي تأكله الأنعام، وينبت في الأودية والجبال والآكام، ?مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ?، يقول: بلاغاً لكم ولأنعامكم إلى وقت انقضاء آجالها وآجالكم، فرزقناكم فواكه وحباً، ورزقنا أنعامكم عضاها وأباً. فكل ما أخرج قد سماه لأهله، ومن يملكه رزقاً. فهو رزق لمن أجاز الله له أكله وأحل له أخذه وأمره عليه بشكره، فقال: ?كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ?[البقرة:6]، وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[البقرة:172]، وقال: ?فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[النحل:114]. فرَزَق ذو المن والسلطان والجبروت والبرهان كلَّ(1/433)


عبد ما أحل له وأمره بأخذه؛ فأما ما نهاه عن أكله وعذبه في قبضه فليس ذلك لعمرهم من رزقه، وكيف يجوز على ذي الجلال والجبروت أن يجعل لعباده رزقاً وقوتاً به يعيشون وفيه يتقلبون، ثم ينهاهم عن أخذ ما أعطاهم وإليه ساقهم وهداهم.
فهذا، والحمد لله لا يغبى على من وهبه الله علماً وآتاه تمييزاً ولباً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين.
تم جواب مسألته(1/434)


المسألة الحادية عشرة: تقسيم العقول بين الخلق
ثم أتبع ذلك المسألة عن العقول، فقال: خبرونا عن العقول أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فإن قالوا: مخلوقة. فقل: أمقسومة هي بين العباد أم غير مقسومة؟ فإن قالوا: بل هي مقسومة. فقل: فأخبرونا من أين عرف بعض الناس الهدى فأخذ به، وجهله بعضهم فتركه، وكلهم حريص على الهدى كاره للضلالة، راغب في العلم، مبغض للجهالة، وقد زعمتم أن الله قد جعل سبيلهم واحداً، وعقولهم واستطاعتهم واحدة، وهي حجة الله عليهم؟ فإن قالوا: بتوفيق من الله؛ فقد أجابوا. وإن قالوا: أخذ هداه منهم من أحب، وتركه منهم من اتبع هواه، وأطاع إبليس إلى دعائه. قيل لهم: فما صيَّر بعضهم تابعاً لهواه، والعقول فيهم كاملة مستوية؟ فإن قالوا: بتوفيق من الله وفَّق من شاء منهم؛ فقد أجابوا، وإن قالوا: فضل الله بعضهم على بعض؛ فقد صدقوا، وإن قالوا غير ذلك فقد كذبوا؛ لأنه لو كان الناس في العقول سواء، ما كان من الناس جاهل وعاقل، وأحمق وحليم، ولسمي الجاهل عاقلاً، والعاقل جاهلاً، ولكن الأمر في هذا أبين من ذلك، ولكنهم قوم يجهلون. وإن قالوا: ذلك من قِبَل الأدب والتعليم. فقل: لو كانت عقولهم مستوية، ما احتاج بعضهم إلى بعض في أدب ولا تعليم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما عنه سأل وقال مما ألحد فيه من المقال، فقال: أخبرونا عن العقول أمخلوقة هي أم مقسومة، أم غير مخلوقة ولا مقسومة؟ فنحن والحمدلله نقول: إن الله خلق العقول وأوجدها فيهم، وجعلها حجة له عليهم، وسببها لهم سبحانه وتعالى تسبيباً، وركبها فيهم احتجاجاً عليهم تركيباً، فهي حجة الله العظيمة، ونعمته على خلقه الكريمة، تدعو أبداً إلى الخير والهدى، وتنفي عن الخلق الضلالة والردى، تدل على الخالق ذي الجلال، وتنفي عمن أراد الحق التكمه والضلال، فهي أبداً لمن استعملها داعية إلى الإسلام، مخرجة له من حنادس دياجير الظلام.(1/435)


ثم قسمها سبحانه بين خلقه ليدلهم على ما أوجب عليهم من حقه، فأعطى كل من أوجب عليه أداء فريضة منها أكثر مما يحتاج إليه في أداء ما افترض عليه، فليس منهي يجب عليه عقاب، ولا مأمور يجب له ثواب إلا وقد ركب الله فيه من العقل، وقسم له وعليه أكثر من الحاجة في أداء مفترضه وما يخرجه بحمد الله إن استعمله من جهالته.
ثم أمرهم باستعمال ما أعطاهم من الحجة المركبة فيهم، وأخبرهم أنهم إن لم يستعملوها لم يصلوا إلى علم ما لعلمه أعطوها. فأمرهم أن يستعملوها فيفكروا، وينظروا ويميزوا ويتدبروا. فإذا فكروا وميزوا بتلك الحجة التي لن يضل معها طول الأبد إن أنصفها - بحمدالله - من أحد، ولذلك ما قاله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ?[الحشر:2]، يقول: انظروا بأبصاركم ثم دبروا فاعتبروا بعقولكم فيما ترون وتبصرون، هل له من خالق غير الله فيما تعلمون؟ كما قال سبحانه: ?أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ? وقال: ?وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وقال: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[القصص:71ـ73]. ثم قال تنبيهاً لهم وحثاً على استعمال العقول، ليصح لهم الحق من القول إذا نظروا وفيما ذكر الله مما أراهم وفطر لهم تفكروا، فقال الله سبحانه:(1/436)


?حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[الجاثية:1ـ5]، فقال في أول السورة: ?لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ? يقول: يصدقون بما يرون وينصفون العقل، فيقبلون منه ما عليه يدلهم حين يبصرون ويستبصرون في الحق، ويستدلون على الله بما ذرأ من الخلق فيكونون بذلك مؤمنين، ولله بالخلق والقدرة مقرين؛ ثم قال: ?لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ?، فأخبر أنه قد ذرأ وجعل لهم من الدلالة عليه في خلق أنفسهم ما بأقل قليله على خالقهم يستدلون، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو يوقنون. ثم كرر الدلالة لهم والاحتجاج عليهم بذكر ما أنزل من السماء من رزق فأحيا لهم به الزروع، وفرع به في الأصول الفروع، ثم كرر الاحتجاج والتوقيف لهم والتعريف فذكر تصريف الرياح، وما يكون فيها وبها من الألقاح، فقال: ?وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?، فتتابعت الآيات متناسقات بما فيهن من العبر والدلالات حتى وصل إلى قوم ?يَعْقِلُونَ?، فأخبر بذلك أن كل ما ذكر لا يعلم ولا يخبر ولا يفهم إلا بما ركب وجعل لهم فيه من حجة العقل، فقال سبحانه احتجاجاً عليهم، وتنبيهاً في ذلك كله لهم بما خلق لهم من الأبصار التي لا ينتفع بها في التذكرة إلا بالألباب، وحثاً على استعمال الألباب في كل الأسباب: ?أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ(1/437)

87 / 172
ع
En
A+
A-