ثم نقول من بعد شرحنا ما أراد الله في قوله: ?وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ?: إن هذه الزبر، وإن الاستنساخ، وإن الكتاب الذي يخرج لهم فيه أخبارهم وما كان من أعمالهم، فهو كاللوح المحفوظ، واللوح والكتاب والزبر عند رب الأرباب، فهو العلم المعلوم، والمحيط بالملك المفهوم، الذي لا يزل شيء من الأشياء عنه، ولا يخرج ولله الحمد منه، وهو علم الله العالم بنفسه، المتقدس عن شبه خلقه. وإنما يحتاج إلى كتاب المعلومات من يكل علمه في بعض الحالات، فأما رب الأرباب فهو محيط بكل الأسباب. فكل ما عمل الخلق فهو في العلم المستطر، أي فمعناه: معلوم مختبر، يوقفهم في يوم حسابهم عليه فيعرفونه طراً لديه، فلا يضل عن أفهامهم بقدرة الله شيء من أعمالهم، ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة:7]، وقال: ?وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا?[الكهف:49]، وقال لقمان لابنه وهو يعظه: ?يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ?[لقمان:16]، وقال في ذلك رب العالمين: ?وإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ?[الأنبياء:47]، فأخبر أنهم يلاقون كل ما كانوا يفعلون، وأن ذلك كله صغيره وكبيره مثبت في الزبر عنده، وكل هذه الأسباب تدل على أن الزبر خلاف ما نزل من الكتاب.
ثم قال: إن أثبتوا أن أفعال العباد شيء، فسلهم: من خلق ذلك الشيء؟
فنحن بحمدالله نقول، وعليه منا المعمول: إن خالق كل شيء عامله، وعامله ففاعله، قال سبحانه: ?فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ?[المؤمنون:14]، فسمى العاملين خالقين، وقال شاعر من فصحاء العرب:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ(1/413)


ـض القوم يخلق ثم لا يفري
يريد: أنك تتم ما دخلت فيه وصنعته، وتكمل كل ما قمت به وعملته، وغيرك لا يُصدِر إذا أورد وأنت تصدر حين تورد.
وقد يُرى من يفسد ويسرق ويكذب ويفسق، فهل يقول الحسن بن محمد في ذي الجلال خالقه إنه المتولي لذلك الفعل دون فاعله؟ فيكون قد قال بخلاف قول الله، ورد في ذلك كله على الله حين يقول: ?أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ?[الواقعة:63]، فميز بين الحرث والزرع، فجعل شق الأرض وحرثها وتسويتها وبذرها لهم فعلاً، وجعل إخراجه وفلق حبه وزرعه وتقويته له فعلاً، فقال سبحانه: ?إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى?[الأنعام:95]، وكذلك تقول العرب للغلام إذا أرادت له الخير والإكرام: زرعك الله زرعاً حسناً؛ تريد: بلغك وأنبتك نباتاً حسناً، قال الله سبحانه: ?فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا?[آل عمران:37]، يريد أنشأها وكبرها وغذاها فأحسن بإرزاقه غذاءها.
وقد يكون من هذه الأشياء - التي هي أفعال - الزنا وشرب الخمر وارتكاب الرذائل، فماذا يقول الجاهلون في هذه الأشياء؟ من فعلها عندهم؟ الخالق؟ أم المخلوق؟ ومن أظهرها وأوجدها الرب؟ أم المربوب؟ فتقدس وتعالى ذو الجلال عما يقول المبطلون.
بل، ما يقول - ويحه وويله من الله سبحانه وعوله - في هؤلاء المجوس الذين أقاموا لأنفسهم ناراً وبنوا لها تعظيماً وإجلالاً داراً، ليلهم ونهارهم يؤججونها ويوقدونها، وهم في ذلك من دون الله يعبدونها، أهم اجترأوا على الله فيما فعلوا؟ أم الله أدخلهم في عبادة ما عبدوا؟(1/414)


فإن قال: بل فعله المجوس الأنجاس، وتعدى به على الله العصاة الأرجاس؛ فقد أصاب الجواب وأجاب في ذلك بالصواب. وإن قال: إن الله فعله، وأدخلهم فيه، وقسرهم على ذلك، وأجبرهم عليه؛ فقد زعم أنهم يصبحون ويمسون لله مطيعين وفي مرضاته سبحانه ساعين، إذ هم في قضائه وإرادته متصرفون، وفيما أدخلهم فيه داخلون، وعما صرفهم عنه من طاعته منصرفون.
بل، فليخبرنا أهل هذه المقالة من أهل المحاربة لله والضلالة: ما الذي يجب عليهم ويرضونه في أحبابهم وفيهم، إذا رأوا مجوسياً يشتم الله؟ التغيير عليه؟ أم الإقساط إليه والإحسان؟ فإن قالوا: بل يجب عليه التغيير والنكير إن نحن سمعنا شاتماً يشتم الرحمن اللطيف الخبير. قيل لهم: لم ذاك، وأنتم تزعمون في أصل قولكم، (أن الله الذي فعل أفعالكم وأفعالهم دونكم، فيجب في قولكم)، أن الشاتم بريء من شتمه، وأن الله سبحانه الشاتم دون المجوسي لنفسه، إذ زعمتم أن ذلك فِعل الله دون مخلوقه وعبده. فلئن كان عليه الله بذلك قضى فما قضى إلا بما أراد سبحانه وارتضى، أفتنكرون على المجوس المؤتمرين بما أراده منهم رب العالمين؟! لقد إذا سخطتم من الله ما ارتضى، ورضيتم له من ذلك له ما لم يرد ولم يشأ. بل الواجب في ذلك على كلكم - إن كان القول في الله كقولكم - تكرمة المجوس والإحسان إليهم، إذ قد قاموا لله بما قضى به عليهم، فهم لله في قولكم ومذهبكم مطيعون، وأنتم ومن قال بقولكم لله سبحانه عاصون، إذ أنتم لما أراد منهم ولم ينكره عليهم منكرون، وأنتم لهم ظالمون، وعليهم بالمنكر متحاملون.(1/415)


ففي قليل مما احتججنا به من عدل الله ما كفى عن إعادة ما ذكرنا أولاً وشفى - والحمد لله - عن التطويل وأغنى، غير أنا لا نجد بداً إذا كرر وسأل من أن نشرح ونفسر كل ما يقوله من المقال، وإذا احتج بالمحال أبطلناه، وإذا عارض الحق بالباطل دمغناه، كما قال مولانا لا مولاه: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ?[الأنبياء:18]، وقال في تولي المحقين وخذلان المبطلين: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ?[محمد:11]، يقول سبحانه: لا ولي ولا متولي، ولا مرشد لهم، ولا كافي.
تم جواب مسألته(1/416)


المسألة التاسعة: الآجال
ثم أتبع ذلك المسألة عن الآجال، فقال: خبرونا عن الآجال، من وقتها؟ أموقتة هي أم غير موقتة؟ فإن قالوا: الله وقتها؛ فقد أجابوك. فقل: هل يستطيع أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها؟ إن شاء عجلها عن وقتها وإن شاء أخرها؟ فإن قالوا: لا؛ فقد انتقض عليهم قولهم. وإن قالوا: نعم. فقل لهم: فقد زعمتم أن الناس يستطيعون أن يقدموا ما أخر الله، ويؤخروا ما قدم الله، وهذا هو التكذيب لما جاء من عند الله، وذلك قوله: ?وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ?[المنافقون:11].
تمت مسألته
[جوابها:]
وسأل عن الآجال، فقال: هل يستطيع أحد أن ينقص منها أو يتعدى فيقطع ويتلف بعضها؟ وزعم أن ذلك لا يكون أبداً ولا يقدر عليه أحد أصلاً، ولا ينال أحد على أحد تعدياً.
فقول أهل الحق أجمعين، والله سبحانه على ذلك المعين: أن الله وقَّت لعباده آجالاً، وضرب لهم في أمورهم أمثالاً، وجعل فيهم قدرة على أن يقتل بعضهم بعضاً، فمن شاء خاف ربه في كل حال واتقى، ومن شاء كفر وظلم وأساء، وجار في فعله وخالف واعتدى. ألا تسمع كيف يقول رب العالمين لجميع من أمره من المأمورين: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلا بِالْحَقِّ?[الأنعام:151]، فنهاهم عن قتل النفس، إذ علم أنهم عليه مقتدرون، وفي ذلك - ولله الحمد - مطلقون وله مطيقون، ولو لم يعلم أنهم كذلك، ولا أنهم يقدرون على شيء من ذلك لما نهاهم عنه ولا حذرهم منه؛ لأن نهي الإنسان عن الطيران مستحيل في اللغة واللسان، وعند كل من عرف البيان.(1/417)

83 / 172
ع
En
A+
A-