ففي هذا والحمد لله من الحجة كفاية لمن كانت له بالحق من الخلق عناية.
وممما نحتج به على الحسن بن محمد من المقال، وندحض به قوله المحال، أن يقال له: إذا كنت تزعم أن الله خلق هذه الحركات التي هي من أفعال العباد، من أخذ وإعطاء، وحذوا واحتذاء، ولبس وارتداء، وقول ومقال، وزور ومحال؛ فلا نشك نحن ولا أنت ولا أحد علم شيئاً أو فهم أن قريشاً بَنَت بنخلة العزى، وثقيفاً بالطائف اللات، فزينوهما بالجواهر والعقيان، ثم عبدوهما وجعلوهما قسماً من دون الله الرحمن؛ ومن ذلك ما جعلت ونحتت وأقامت ونصبت على الكعبة وفيها قريشٌ من الأصنام، وما كانوا يجلون ويعظمون ويذبحون لهبل وأشباهه عند بيت الله الحرام، فيقول الحسن بن محمد: إن الله تعالى بنى لهم اللات والعزى، وأمرهم بعبادتهما، والقسم دونه بهما، وأنه أقام لهم تلك الأصنام، وأضل بها كل من ضل بها من الأنام، وعظمهن وذبح - جل عن ذلك - لهن، وقرب تلك القرابين إليهن؛ لعمر الحسن بن محمد وأتباعه وأهل البدعة من أشياعه، لو كان الله خلق وفعل أفعال الفاعلين، لكان العابد دون من عبدهن لهن، فلذلك يلزم من قال ذلك بلا شك بهذا القول الكفر، إذ يقولون: إن الله فاعل أفعال قريش دونها، وفاعل كل ما فعله من الفواحش غيرها، فَلِمَ - يا ويحه! - إذا بعث محمداً إليهم يعيب ذلك عليهم؟! لقد بعثه إذا يعيب عليه فعله دونهم، ويبطل ما صنع، ويخفض ما رفع، وقريش إذا كانت لله مطيعة، وفي مرضاة خالقها ماضية سريعة فيما فعل، معظمة محلة لما أحل، ومحمد لله في فعله مضاد، وفي كل قضائه محاد؛ فلقد إذا هدم محمد صلى الله عليه وآله ما بنى الرحمن، وعانده وخالف عليه في كل ما شأن، فهذا أكفر الكفر، وأعظم الفرية على الله والأمر، فسبحان من هو بريء من عصيان كل عاص، وطغيان كل مفتر طاغ.
تم جواب مسألته(1/408)
المسألة الثامنة: هل الأعمال شيء أم أنها ليست شيئاً؟
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن الأعمال، فقال: خبرونا عن الأعمال التي عمل بها بنو آدم، أشيء هي؟ أم ليست شيئاً؟ فإن قالوا: بل هي شيء. فقل: من خلق ذلك الشيء؟ فإن قالوا: الله خلقه؛ انتقض عليهم قولهم. وإن قالوا: ليس ذلك مخلوقاً؛ كان ذلك شركاً بالله، وتكذيباً لكتابه، لأن الله سبحانه خالق كل شيء. فقل لهم: ألم تعلموا أن أفعال بني آدم شيء؟ فإن قالوا: نعم. فقل: والله خلقها. فإن قالوا: ليست بشيء. فقل لهم: فقد زعمتم أن الله يثيب على غير شيء، ويعذب على غير شيء، ويغضب من غير شيء، ويرضى من غير شيء، ويدخل الجنة بغير شيء، ويدخل النار بغير شيء.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من أفعال العباد، فقال: أشيء هي أم غير شيء؟ وقال: إن كانت شيئاً فمن خلقها؟ وإن لم تكن شيئاً فهل يعذب أو يثيب الله على غير شيء؟
فإنا نقول، وإلى الله سبحانه نؤول: إنها شيء وأشياء، وطاعة وعصيان، وإساءة وإحسان، ألم تسمع الله سبحانه يقول: ?لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا?[مريم - 92:88]، فسمى تحرك ألسنتهم بما قالوا من الكذب والافتراء شيئاً، ثم أخبر بأن السماوات لو كان فيهن من العقول والتمييز ما فيكم لانفطرن لإعظام ما جاء من قولكم، وكذلك لو أن الجبال كان فيها بعض ما ركب (فيكم من الفهم) لخرت لإعظام اجترائكم على الخالق بما به اجترأتم. وقال سبحانه: ?وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ?[القمر:52]، فسمى أفعالهم شيئاً، فقد أوقع في الزبر، والزبر فهي الكتب.
وقال ابن عباس: إن الزبر التي ذكر الله أن أفعالهم فيها هي هذه الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من التوراة والإنجيل والفرقان الكريم الجليل.(1/409)
ونحن فنقول: إن الزبر هي الكتب التي ذكر الله في قوله: ?وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا?[الإسراء:13]، وفي قوله: ?هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إنا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?[الجاثية:29]، فهذه التي ذكر الله من الكتب عنده، وأنه يظهرها يوم دينه وحشره هي الزبر التي ذكر الله أن أفعالهم فيها، لا ما قال ابن عباس من أنها هي المنزلة على أنبيائه، من توراته وإنجيله، وما نزل على محمد من فرقانه، ألا تسمع كيف يقول: ?وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ?[القمر:52،53]، وهذه الكتب المطهرة من التوراة والإنجيل والفرقان المكرمة ففيها بعض ما فعل العباد، وكثير منها لم يقص خبره، ولم يذكر جل جلاله أمره، كما قال ذو العزة والأياد، ورافع السماء وداحي الأرض ذات المهاد: ?مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ?[غافر:78]، وقال: ?نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ?[القصص:3]، يريد نقص عليك بعض خبرهما، وما كان من محاورتهما وأمرهما، وقال سبحانه في أهل الكهف، وما كان من سؤال قريش للنبي عنهم، فقال الله في ذلك: ?إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إلا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ(1/410)
أَحَدًا?[الكهف:21،22]، وقال سبحانه: ?مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ?، وقال: ?مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ?، فأخبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بما كان من قول أهل بلدهم فيهم، وقص عليه قبل ذلك ما كان من فعلهم في أنفسهم - رحمة الله عليهم - واعتزالهم إلى الكهف، وإخلاصهم لله دينهم، ثم أمره بأن لا يماري فيهم إلا مراء ظاهراً، وكتمه عدتهم، ثم قال: ?قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إلا قَلِيلٌ?، ففي كل ذلك يخبر أنه لم يعلمه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يخبره في كتابه من أخبار من مضى وفات في قديم الدهر وانقضى إلا باليسير من القصص دون الكثير، ويدل على أن ما لم يقص عليه من أخبار الأمم الماضية، والحقب الخالية أكثر مما قص، وأعظم وأطول وأطم، وكل ذلك فدليل من الله في واضح التنزيل، على أن ما ذكر الله من الزبر التي فيها كل ما فعله العباد مستطر غير هذه الكتب التي ذكر فيها جزءاً وترك، ولم يذكر بعضاً؛ لأن ما جمع فيه كل شيء بخلاف ما جمع فيه بعض شيء، إذ نصف الشيء وبعضه خلاف الشيء كله.(1/411)
فأما الكتب التي ذكرها الله في كتابه ونزل فيها ما نزل من وحيه وقرآنه، فهي ما أقسم به سبحانه حين يقسم فيقول: ?وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ?[الطور:1]، وقوله: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89]، وقال سبحانه فيما حكى عن مؤمني الجن إذ صرفهم إلى نبيه يستمعون من القرآن، فقال: ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ?[الأحقاف:29]. فهذا وما كان مثله في القرآن من ذكر الكتاب والكتب فهو ما أوحى الله ونزل سبحانه مما قص فيه من أخبار خلقه وما أراد، وترك ما لم يرد من أخبار العباد.(1/412)