عاد فقد علم أنه سيعود، وليس علمه بأنه سيختار المعصية أدخله في العصيان، لأن ضده قد يكون من العبد وهو التوبة والإحسان، فكيف يجوز على الواحد الرحمن أن ينقل من عباده أحداً من رضاه إلى سخطه، إذا لقد جبره على معصيته، ولو جبره عليها إذا لما كان بد للعبد من الدخول فيها، ولو دخل العبد فيما أدخلهربه فيه لوجب له الثواب عليه، ولكان لله من المطيعين، إذ هو جارٍ على مشيئة رب العالمين، ولما كان في الخلق عاص، ولكان الله عن كلهم راضياً، ولكان في القياس إبليس عند الله مرضياً إذ هو يجب أن يدعوا إلى ما شاء الله لعباده ورضي، ولما ذمه في التكبر والعصيان؛ إذ الحامل له والمدخل له فيه الرحمن، ولما قال: ?مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إذ أَمَرْتُكَ? وهو يعلم أنه المانع له من السجود، فتبارك الله عن ذلك الواحد المعبود.(1/393)
ألا ترى كيف تبرأ من أفعالهم، ويأمر بالمجاهدة لهم على اليسير من أعمالهم، ولو كان المتولي لذلك فيهم لما عابه سبحانه منهم، ولما حض عباده على تغيير ما أحدث فيهم عليهم، ألا تسمع كيف يقول: ?وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فإن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الحجرات:9]، فقال: ?اقْتَتَلُوا?، فألزمهم الفعل، وقال: ?فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ?، فأوجب على غيرهم من المؤمنين نصر المظلومين (على الظالمين)، فلو كان على قول الجاهلين، لكان قد ألزم المؤمنين قتال من لا يجب قتاله، ومن تجب ولايته، إذ أجاب الله في دعوته، وجرى له في طاعته، وبغى على من أمره بالبغي عليه، ولو كان الله المحدث البغي في الفاعل له، لكان قد أمر عباده بقتاله حصراً فيه دون غيره حتى يفيء هو ويرجع عن إرادته ومشيئته، ولكان أيضاً قتال عباده قتاله دونهم، فكان مقاتلاً نفسه على فعله، إذ كان فعل المقاتَل والمقاتِل له فعلاً واحداً، فتبارك الله المتقدس عن ظلم العباد، المتعال عن اتخاذ الصواحب والأولاد، كما قال سبحانه: ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ?.
والحمد لله الحميد على ما خصنا به من التوحيد، ودلنا به من الدلالات فيما أبان من خلق الأرضين والسماوات وغيرهما من الآيات.
تم الجواب(1/394)
المسألة الرابعة: هل أراد الله تعالى خيراً في خلق النار ؟
ثم أتبع ذلك المسألة عن أهل النار وعن النار، فقال: خبرونا عن أهل النار ألخير أراد الله بهم فوضعها فيهم؟ أم الشر أراد بهم؟ فإن قالوا: الخير أراد بهم، فيقال لهم: وكيف ذلك، وقد جعلها وقد علم أنهم لا ينتفعون بها، وأنها لا تكون إلا في مضرتهم، وإن زعموا أنه جعلها فيهم ليضرهم انتقض عليهم قولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من أمر النار، وقال: لم خلقها الله الرحمن؟ الشر أراد بخلقه لها؟ أم الإحسان؟(1/395)
فنقول: إن الله تبارك وتعالى، جعل النار في دار الدنيا مزجرة لمن اهتدى، لما فيها من التذكرة بالنار التي وعدها الله للكافرين في دار الآخرة، ولا شيء - والحمدلله - أبين نوراً ولا أظهر خبراً من أن يكون خلق خلقاً أراد منهم أمراً وكره منهم ضده، وأمرهم بما أراده، ونهاهم عما سخطه، ثم خلق لهم ثواباً، وأعد لهم عنده عقاباً، ثم استدعاهم إلى الطاعة بالثواب، ونهاهم عن المعصية بالعقاب، فعُبِد خوفاً من عقابه، وأطيع طمعاً فيما جعل من ثوابه، كما قال تعالى: ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ?[السجدة:16]، فجافوا، لمخافته وطلب مرضاته، منهم الجنوب، وطهروا أنفسهم من الذنوب، وطيبوا منهم السرائر والقلوب، فأمنوا بالطاعة أنفسهم من نحل العاصين، واستوجبوا بذلك اسم المؤمنين، فكانوا كما قال فيهم ووصفهم رب العالمين حين يقول: ?إنما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ?[الأنفال:2]، فخافوا ربهم واهتدوا، ومن عذابه نجوا. فلما أعلم الله العباد أجمعين أن الجنة مصير المؤمنين، وأن النار مقر الفاسقين، (ليحذر أولوا الألباب النيران)، فأعملوا أنفسهم في الفرار إلى الرحمن، راغبين فيما رغبهم فيه من الجنان، فسبحان من لطف بعباده بما جعل لهم من النار في بلاده، تخويفاً وترهيباً ومنافع وتقوية وترغيباً، ?لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وإن اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال:42]. ثم قال: ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ(1/396)
أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ?[الأنعام:160]، وقال: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة:9]، فجعلها لهم في الدنيا مزجرة وتخويفاً وتحذيراً من نار الآخرة، مع ما لهم فيها في دار الدنيا من المنافع التي لا تحصى، والمرافق الجمة التي لا تستقصى، بها يطبخون ويخبزون، وبها من القر يحترسون، وبها في ظلمات الليل يبصرون، وبها ينالون من الحديد ما ينالون من تصريفه في أسبابهم، وتقويمه لمعاشهم من أدوات حرثهم وحفرهم، وغير ذلك من منافعهم، وما يعدون لأعداء الله من السلاح، من السيوف والدروع التي تقيهم بأسهم، كما قال سبحانه: ?وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ?[الأنبياء:80].
ألا ترى وتسمع كيف قال رب العالمين حين يذكر بالآية عباده المتقين، فقال: ?أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ?[الواقعة:71ـ73]، فجعلها الله الواحد الأعلى منفعة في الدنيا للخلق طراً، ونكالاً في الآخرة لمن استأهلها لا تفنى.
ففي هذا، والحمد لله من الجواب ما أزاح من لب ذي الشك التحير والارتياب، وثبت في إيجاد النار، الحكمة لرب الأرباب.
تم جواب مسألته(1/397)