وأما ما سأل عنه من إرادة الله في آدم وزوجته حين أسكنهما الجنة، أكانت إرادته خلودهما فيها؟ أم خروجهما عنها؟ وما توهم من هذه الجنة التي كان فيها آدم وزوجته أنها جنة المأوى التي جعلها الله ثواباً للعاملين ومقراً دائماً لعباده المؤمنين، فإنا نقول: إن الجنة التي كان فيها آدم وزوجته هي من جنات الدنيا ذوات الأنهار والغرف والأشجار فسماها الله جنة، وهذا فموجود في لغة العرب غير مفقود، تسمى ما كان من الضياع والبساتين ذا فواكه وأشجار وعيون جناناً. أما سمعت إلى قول الله، سبحانه ما أبين نوره وبرهانه، وكيف حكى عن الأمم الماضين، الفراعنة المتجبرين، حين يقول سبحانه: ?كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ?[الدخان:26]، وقال: ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ?[الكهف:39]، فسمى الله ما كان من الأرضين على ذلك من الحالات في قديم الدهر وحديثه جنات، وأن آدم كان في موضع قد بوأه الله إياه كريم شريف عظيم، خلقه فيه وأجرى رزقه ومرافقه عليه، وليس كما ظن الحسن بن محمد، وتوهم من فاحش الظن والمقال أن أهل الجنة منها خارجون وعنها منتقلون، وأن آدم وحواء كانا فيها ثم أخرجا، وليس كذلك، بل هو كما قال رب العالمين، وأصدق الصادقين فيمن صار إلى جنة المأوى من عباده الصالحين: ?خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ?[البينة:8]، وكما قال: ?لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ?[الحجر:48]، وأخبر أن من دخل جنة المأوى غير خارج منها أبداً، وأنه لن يذوق بعد دخوله إياها نصباً ولا شقاء، وقال عز وجل إخباراً منه أنه لا يدخل الجنة إلا المطيعون المجازون من العالمين، فقال: ?فَأَمَّا مَن طَغَى(1/388)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فإن الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى?[النازعات:37]، فأخبر سبحانه، أن الجنة لا يدخلها إلا من اتقى وتقدم منه العمل بالحسنى، فأولئك الذين تزلف لهم الجنة، قال الله تعالى: ?وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ?[ق:31].
وأما ما سأل عنه من قول الله: ?فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ?، ومن قوله: ?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى?، وما توهم من ذلك أن هذه الأرض التي خلق منها آدم هي أرض الجنة وعرصتها، وأن كل العباد راجع إليها، فليس ذلك كما توهم ولا كما قال، وإنما عنى الله بكل ما ذكر من هذه الأقوال هذي الأرض التي منها خلقوا وفيها يدفنون ومن أجداثها يبعثون، قال الله تعالى: ?أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا?[المرسلات:25]، وقال سبحانه: ?يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ?[ق:44].
وأما ما سأل عنه، فقال: ما كانت إرادة الله في آدم وزوجته؟ أيخلدان في الجنة؟ أم أراد أن يخرجا منها ويهبطا عنها؟(1/389)
فإنا نقول: إن إرادة الله في وقت خلق آدم وزوجته سكناهما في الجنة ومقامهما، وإن إرادته وحكمه عندما كان من غفلتهما واستزلال الشيطان لهما حتى كان منهما ما كان من معصيتهما لسبب الغفلة والنسيان لما عهد إليهما ربهما من اجتناب الشجرة التي عنها نهاهما - فطلبا البقاء والحياة والاستزادة من العمل الصالح، ورجوا أن يخلدا، فيزدادا طاعة لربهما وتكثر عبادتهما لخالقهما، فغوى صلى الله عليه، في الشجرة ناسياً، ولم يكن ذلك عن مباينة لله بالعصيان، ولا عن قلة معرفة بما يجب للرحمن، قال الله تبارك وتعالى: ?فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا?[طه:115] - فلما أن كان ذلك منهما أراد الله أن يهبطهما من الجنة التي كان قد كفاهما فيها لباسهما وقوتهما، فأخرجهما منها إلى غيرها من الأرض، وبدلهما بالراحة تعباً، وبالكفاية للمؤنة طلباً وحرثاً وزرعاً. فكانت إرادته في وقت إيجادهما: الكفاية لهما، وفي وقت نسيانهما: ما حكم به من إخراجهما وإهباطهما منها إلى غيرها. فالهبوط فهو القدوم من بلد إلى بلد، تقول العرب: هبطنا من بلد كذا وكذا إلى بلد كذا وكذا، وهبطنا عليك أرضك، وقال الله المتقدس الأعلى فيمن كان مع عبده ونبيه موسى، ممن كان ينزل عليه المن والسلوى ويظلل بالغمام ويسقى زلال الماء، فطلبوا وسألوا التبدل بذلك مما هو أقل وأدنى، فقالوا: ?يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ? [البقرة:61]، (فقال: اهبطوا مصراً، أي اقدموا وانزلوا مصر تجدوا فيه ما سألتم) من هذه الأدنى. فأراد سبحانه أن يسكنها آدم أولاً، ويخرجه منها آخراً، كما شاء أن يسكن ذريته الدنيا ثم يخرجهم منها إذا شاء إلى(1/390)
الآخرة، وكما شاء وأراد أن يصلي له نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس، ثم شاء أن ينقله عنه إلى ما هو أعظم، فينقله إلى بيته الحرام المكرم، كما شاء سبحانه أن يفترض على أمة موسى من الفرائض المشددة والأمور المؤكدة، فافترض ذلك عليهم، ولم يرض منهم بسواه من ذلك ما حرم عليهم من المآكل من الشحوم اللذيذة وغيرها، وما حظر عليهم من صيد البحر في يوم سبتهم، حتى كانت الحيتان يوم السبت تأتيهم وتظهر لهم وتكثر عندهم وتشرع قريباً منهم امتحاناً من الله لهم، فكانوا لله في تركها مطيعين، وكانوا عنده على ذلك مكرمين، ثم عتوا من بعد ذلك وفسقوا، وخالفوا فتصيدوا، فأخذهم الله بذنوبهم فجعل منهم القردة والخنازير، فقال سبحانه في ذلك: ?واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ?[الأعراف:163]، ثم أراد الله التخفيف عن عباده فبعث فيهم عيسى صلى الله عليه، فأحل لهم بعض ما قد حرم عليهم، قال الله تعالى يخبرنا عما جاء به عيسى وقاله مما أمره الله به جل جلاله حين يقول: ?وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ?[آل عمران:50]، ثم أراد التخفيف عنهم، والنقل لهم إلى أفضل الأديان، إلى دين أبيهم إبراهيم الأواه الحليم، فبعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فصدع بأمر ربه، وأنفذ ما أرسل به، فكان ذلك إرادة من بعد إرادة، ومتعبداً من بعد متعبد، فصرف الله فيه العباد، فتبارك الله ذو العزة والأياد.(1/391)
وكذلك حكم على من عصاه بالمعصية، فإن تاب حكم له بالطاعة، وإن عاد فعصى حكم عليه بما حكم على أهل الردى، وإن تاب وأناب إلى الله وأجاب، حكم له بالهدى والثواب.
فهذه أحكام من الله وإرادات، أراد الله سبحانه أن يتصرف في المخلوقين على قدر ما يكون منهم من العملين، فقال جل وعز: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ?[فصلت:46].
وأما ما ذكر من العلم، وأن العلم لا يخلوا من أن يكون الله العالم بنفسه ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته لغيره، أو يكون العلم غيره. فمن قال: إن العلم غيره؛ فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه، لكان أحدهما قديماً والآخر محدثاً، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المُحدِث لصاحبه. فإن قال: إن العلم أحدث الخالق؛، كفر. وإن قال: إن الله أحدث العلم؛ فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم، ومتى لم يكن العلم فضده لا شك ثابت وهو الجهل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإن رجع هذا القائل الضال إلى الحق من المقال، فقال في الله بالصدق تبارك وتعالى ذو الجلال، فقال: إنه العالم بنفسه الذي لم يزل ولا يزول، وإنه الواحد ذو الأفعال، وإنه لا علم ولا عالم سواه، وإنه الله الواحد العالم؛ وجب عليه من بعد ذلك أن يعلم أن كل ما نسبه إلى العلم فقد نسبه إلى الله، وسواء قال: أدخله العلم في شيء؛ أو قال: أدخله الله فيه وحمله سبحانه عليه؛ فالله عز وجل بريء من ظلم العباد، متقدس عن أفعالهم، فأفعالهم بائنة من فعله، وأفعاله بائنة من أفعالهم، لم يحل بين أحد وبين طاعته، ولم يدخل أحداً في معصيته. فعلم الله بما يكون من أفعال عباده فغير أعمالهم، ولم يضطرهم إلى عمل في حال من حالاتهم، فالعلم بهم محيط فهم متصرفون فيه، وينتقلون من معلوم إلى معلوم بما ركب فيهم من الاستطاعة والقدرة، قد علم ممن عصاه أنه سيعصي، وأن من تاب فقد علم أنه سيتوب، وإن(1/392)